منذ زمان الطفولة ونحن نسمع عبارة تتكرر يومياً مفادها (إنّ لكل مشكلة حل) على وزن (إن لكل داء دواء) . تتصاعد هذه العبارة في أقوال الاباء لأبنائهم والمعلمين لتلاميذهم والازواج لزوجاتهم ورجال الدين لاتباعهم وقادة الاحزاب لمؤيديهم وموظفي الدولة لمراجعيهم والاطباء لمرضاهم.
حتى في المسلسلات التلفزيونية نشاهد في شهر رمضان مشاكل كثيرة في حلقاتها الـــ(29 ) تتراكم وتتناقض لكن المخرج والمؤلف يحلاّن جميع (المشاكل) في الحلقة الأخيرة على وفق نظرية (لكلّ مشكلةٍ حلٌ).
ساق هوى العراقيين خلال 35 عام من ظلم نظام صدام حسين نفس هذه (المقولة – العبارة) اذ قال الغزاة الامريكان وكثير من المعارضين العراقيين أن (حل) مشكلة الظلم يتم بــ(الغزو العسكري) من دون أن يتوقع القادة الجدد احتمال ما سوف ينتج عنه آلاف غير محسوبة من المشاكل – الكوارث.
صحيح كان من نتائج ذلك (الحل) سقوط الصنم فعلياً و تحقيق السعادة القصوى عند بعض قادة أحزاب الإسلام السياسي ودعاة الطائفية وتقسيم الوطن ، لكنه دمّر واقع حال أكثر من 90% من ابناء الشعب العراقي. لم يكن أحد يتوقع أن صحوة ما بعد سقوط الدكتاتورية ستكون صحوة منافقة كاذبة إنْ لم تكن قائمة على نور الاخلاق الديمقراطية الحقة.
أول الحلول الناقصة كان تنصيب بول بريمر حاكماً امريكياً مدنياً على بلاد الرافدين وهو يردد مقولة (إنّ لكل مشكلة حل) نتج عنها تصرفات غريبة ،عجيبة ، مريبة، خلقتها بيئة الطائفية والانقسام بين ابناء الشعب الواحد، منها انهيار الدولة وانحلال الجيش . صارت آلاف المشاكل في بلد ليس فيه قوات شرطة تتحمل مسئولية توفير الأمن والأمان. تحمّل خلال عام حكم بول بريمر وما بعده سياسيون من تيارات دينية ومذهبية واقتصادية مختلفة، مسؤولية قيادة الدولة والجيش الجديد وبرلمان قيل أنه من (النوع الحميد). كل الكيانات الجديدة قالت : ( إنّ لكل مشكلة حل) لكن يقودها شعور شامل بالمنافع الشخصية والحزبية والمذهبية والاثنية. (الحلول) لم تقدم غير مشاكل جديدة ادت بعد 13 عاما من سقوط الصنم الى إلغاء الكيان الانساني في المجتمع العراقي. صارت غالبية الشخصيات السياسية فاسدة مالياً أو إدارياً أو سياسياً. صار كل واحد من الاحزاب والكتل الحاكمة يتطلع الى اللحظة السياسية الفريدة لتحقيق مصلحة فردية فريدة.
صار القانون لعبة تنتقل من يد الى يد تضيع في دهاليز البيروقراطية ولا تلمع في منصات الديمقراطية. صارت إرادة الشعب في العيش بحرية وكرامة حلماً مقهوراً باليقظة القاسية. صار (الذنب السياسي) مقبولاً لأنه من صنع ذئب مسلح بملعب احزاب وميليشيات. صارت تربية المواطنين على الذنب وليس على الصدق. صار اغلب قادة الدولة وموظفيهم ينظرون الى المخلوق الآدمي العراقي باعتباره فرداً عادياً لا يملك مرتبة في الفهم والادراك يستحق الاحترام .
كثير من حكامنا الجدد هشّموا بغداد وتاريخها وامجاد شعبها لأنهم من نوع الناس الفاقدين جذورهم الأصيلة ، لا تتوقد في عيونهم أنوار وعطاء ثقافة بغداد، القديمة والحديثة، و لم يتضمنوا أفكار ما قالته ساحرة الصوت الغنائي العربي، فيروز الرحباني وما قاله أبن الرومي وأسحق الموصلي وتولستوي والجواهري وبرتراند رسل عن بغداد وأمواجها في التاريخ الإنساني.
هشّموا بغداد وأرضها وعمرانها وأنهارها واسطورة تاريخها. قادة جهلة غير عارفين شيئاً من علوم السياسة ، ناقصين معرفة عن القواعد الديمقراطية والقوانين المطورة للنظم الاجتماعية . حتى ما استفادوا من وجودهم الطويل في البلاد الاوربية لمعرفة وسائل تطورها المذهل وأخلاق شعوبها ..لم يستمتعوا بما ظفرت العقول البشرية من حرارة واندفاع لبناء موطنٍ يعيش فيه المواطنون بنعمة الروح والأمان والقانون والاعتزاز الانساني.
قادة احزاب الإسلام السياسي ومدّعي الديمقراطية هدّموا الصورة الجميلة الساحرة لبلاد الرافدين. صاروا بقّالي سياسة يغشون بضاعتهم ، مبتعدين حتى عن صفوف البقالين الفضلاء. بهذا وذاك جرّدوا كل مواطن عراقي خارج بلاده من المفاخرة بأنه من أحفاد أوّل الناس على الكرة الارضية ، أحفاد أول من كانوا بمستوى عالٍ من بلاغة العلوم واللغة والقانون والهندسة والرياضيات وفصاحة فنون الرسم والنحت والموسيقى. صار حكامنا الجدد لا يعرفون عن الكرة الأرضية شيئاً غير المال والعقار وما يؤجج الاندفاع الى جمعهما.
تُرى هل هذا الذي يحصل في بلادنا من موت وخوف وقتل وحرب ونهب وفساد واختطاف وسرقة المال العام وتزوير الوثائق وتدهور الصحة والتعليم ورشى وزراء و مدراء وقضاة واحتلال داعشي هو عقاب للعراق والعراقيين لأنهم اغمضوا عيونهم عن سيئات عبارة (إنّ لكل مشكلة حل) من دون أن يلتفتوا الى واقعية المقولة المضادة أن (لكلّ حلٍ ألف مشكلة) يخلقونها لنا بجهلهم ،كل يوم..؟