بدأ محمّد فاتح كفاحا مريرا مِنْ أجل لقمة ألعيش وألقيام بأود أسرته ألمتكونة مِن تسعة أفراد، كانت ألمكتبة ألمصدر ألوحيد لرزق ألعائلة، لقد كان أختياره لهذه ألمهنة نابعا مِن حُبّه للثقافة بألرّغم مِن أنّه لَمْ يتلّقى ألعلم في ألمدارس حيث تعلّم ألقراءة وألكتابة بأللغة ألعربية في كُتّاب والده. كانت هذه ألكتاتيب منتشرة في أرجاء ألعراق خلال تلك ألحقبة وكانت تشكّل ألمصدر ألوحيد ألشائع لتعلّم ألقراءة وألكتابة، وكانت كلّ محلّة تحوي كُتّابا وتسمّى بأللغة ألتركمانية (ملّا) وهذه ألتسمية تعني مُعلِّم ألقرآن او رجل ألدين ألّذي كان يُدرِّس في هذه ألكتاتيب. كان لكلّ ملّا مساعد يختاره مِن بين ألصبيان وعادة يكون أكبرهم سنّا وكانوا يسمّون ألمساعد بألخليفة، ومِن مهام ألخليفة ألمحافظة على ألنظام ومساعدة ألملّا أثناء تطبيق ألعقوبة على ألصبيان ألمشاكسين بضرب باطن أرجلهم بألعصا بعد ربطها إلى (ألفلقة).
تأثر والدي بثقافة عصره وتعلّمَ ألقراءة وألكتابة بألتركية وبمجهوده ألخاص، وكان يُستعمَل فيها ألحروف ألعربية حينذاك، وبعد تغيير ألحروف ألعربية إلى ألحروف أللاتينية في أللغة ألتركية نتيجة ألثورة ألثقافية ألكمالية، تعلّمَ والدي ألقراءة وألكتابة بألحروف ألجديدة أيضا وبدأ بحملة لتعليمها لِمَن يروم ذلك مِن أهالي ألمدينة، وكان يُجيد بعض أللغات ألآخرى وعلى درجات متفاوتة مِن ألجودة كأللغة ألكردية وألفارسية وألأنكليزية، وكان مولعا بمطالعة ألكتب وبألأخص ألكتب ألأدبية منها، وقد أصدر في عام 1950 أوّل كتاب بألحروف ألتركية ألحديثة يجمع ألشعر ألشعبي ألتركماني ألمسمّاة بألخوريات، وقد جمع في هذا ألكتاب ثلاثمائة مِن ألخوريات ألمتداول بين ألتركمان نقلا مِن أفواه ألنّاس وألمطربين ونسقّها حسب ألحروف ألأبجدية في كتابه ألمعنوّن ( كركوك خورياتلاري وماعنيلري ) وتعني ( خوريات وأغاني كركوك ).
وألخوريات شعر على شكل رباعيات ذات أوزان هجائية سباعية وقافية موحّدة وأحيانا يكون ألبيت ألأوّل ذو ثلاث أو أربع أوزان هجائية.
إنَّ ألخوريات نوع مِن الفلكلور وتُغنّى على شكل ألمقامات ألموسيقية، وللمقامات طرق عديده في ألأداء ويُطلق عليها أسم (أصول) كأنْ يُقال (مُخالِف أصولي) أو (حسيني أصولي) أو (كَرَمْ هواسي) كما يٌطلق على ألخوريات أسم ألقوريات أحيانا، وهي لون من ألوان فلكلور ألغناء ألتركماني ألأصيل في ألعراق وتتألف من مايزيد على ألعشرين مقاما تحمل خصوصياتها من حيث ألتركيبة ألشعرية ألمبنية على (ألجِناس)، وألجِناس هي أستعمال كلمة ذات معنيين في ألشعر. كانت تلك المقامات تؤدّى في ألمقاهي في تلك ألحقبة، وتؤدّى أيضا ليلا في التكايا وأثناء المناقب النبويّة الشريفة بألدفوف وألنقّارات، وتؤدّى المقامات والخوريات ألآن مع الآلات ألموسيقية مثل ألعود وألقانون وألكمان وألسنطور وعلى شكل محاورة غنائية، وكانت تثير حماس ألجمهور ألّذي يحضرون للإستماع إلى إلمؤدّين للخوريات.
إنَّّ ألمقامات ألموسيقية ألشرقية هي تُراث مشترك بين ألشعوب ألقاطنين في ألشرق ألأوسط، فألأتراك وألعرب وألفرس وألأكراد وشعوب أخرى شرقية يستعملون نفس ألمقامات في ألغناء مع بعض ألأختلافات في ألتفاصيل ومِن هذه ألمقامات، مقام ألبيات وألحجاز وألرست وجاركاه وبنجكاه ونهاوند ويتفرّع مِن كلّ مقام مقامات فرعية عديدة.
نتيجة لحُب والدي للثقافة فقد أرسل أبناءه وبناته إلى ألمدارس ألّتي بدأت بألأنتشار تدريجيا وحلّت محل ألكتاتيب وبألرغم مِن معارضة بعض ألأقارب على إرسال بنتيه إلى ألمدرسة فقد أصرَّ على ذلك وأقنع ألمعارضين بضرورة تعليم ألبنات أيضا في ألمدارس، وكانت هذه ألمعارضة ناجمة عن ألتقاليد ألبالية الموروثة مِن نظام ألحريم.
في ألعام ألّذي ولِدّتُ فيه كانت مدينة ألذهب ألأسود كبقية ألمدن وألأقضية وألنواحي وألقرى ألعراقية ترزح تحت نير ألأستعمار ألبريطاني، فبعد أنْ وضعت ألحرب ألعالمية ألأولى أوزارها، أصبح ألعراق مِن حصّة بريطانيا بعد توقيع أتفاقية سايكس بيكو وألّتي بموجبها تمَّ تقسيم ممتلكات ألأمبراطورية ألعثمانية بين ألحلفاء ألمنتصرين.
بألرغم مِن أكتشاف ألذهب ألأسود في منطقة باباكركر إلّا أنَّ أهالي مدينة كركوك كباقي أفراد ألشعب ألعراقي لَمْ يستفيدوا مِن هذه ألثروة ألفتيّة، فبعد ألبدء بأستخراج ألنفط وتشكيل شركة نفط ألعراق، أستخدم ألبريطانيون موظفين أنكليز في ألشركة مع عدد مِن ألموظفين وألعمّال ألمحليين وكانت حصّة ألأسد مِن هذه ألثروة تذهب إلى خزائن ألمٌُستعمِر ألبريطاني.
بدأ حقد ألبريطانيين على ألشعب ألعراقي بجميع أطيافه واضحا مِن خلال تعاملهم مع أهالي ألمدينة، هذا ألحقد ألّذي تغلغل في نفوسهم منذ ألحروب ألصليبية، ولكّن ألتركمان نالوا منهم معاملة خاصة كألتهميش وحبك ألمؤامرات ضدّهم حيث كانوا يعتبرون ألتركمان مِن رعايا ألأمبراطورية ألعثمانية ألّتي أنتصروا عليها وتقاسموا إرثها فيما بينهم.
بدأ ألبريطانيون بزرع بذور ألشقاق بين ألمسلمين وألمسيحيين ألّذين كانوا يعيشون في ألمدينة بوئام وصفاء وذلك لإحكام سيطرتهم على ألمدينة وعلى ألذهب ألأسود ألمخزون في باطن أرضها. في تلك ألفترة ونتيجة لمعارضة ألتركمان للسياسة ألبريطانية ورفضهم ألأستفتاء على تنصيب ألملك فيصل ألأول ملكا على العراق ألّذي كانوا يعتبرونه وعائلته مِن ألّذين غدروا بألمسلمين وتعاونوا مع ألبريطانيين لمحاربة ألدولة ألعثمانية ألّتي كانت تمثّل ألخلافة ألأسلامية في تلك ألفترة، ولوأد ألروح ألقومية ألمتنامية بين صفوف ألتركمان، قام ألجنود ألمرتزقة ألتابعين للبريطانيين ألّذي ضمَّ بعض ألآشوريين ألعراقيين وألهنود والّذين كانوا يُسمّون بألليفي بأعمال نهب لدكاكين ألتركمان وقتلوا عددا مِن ألمواطنين وقد جرت هذه ألأحداث في ألرابع مِن شهر أيّار مِن عام 1924.
( بداية ألمجزرة كانت في ألموصل فبسبب السلوك الخشن لقوات الليفي وقعت مشادة بين عدد من أفراد هذه القوات والسكان الموصليين في سوق العتمة في 15 آب 1923 ، وأدّى ذلك إلى وقوع عدد مِن القتلى وألجرحى في صفوف ألأهالي بعد أنْ أطلق جنود ألليفي ألنار عليهم ، وكادت الأمور تفلت مِن يد ألحكومة بعد أنْ تهيّأ ألأهالي للثأر من جنود ألليفي مما دفع ألحكومة إلى ألاتصال بالمندوب السامي البريطاني طالبة منه ألمساعدة في إحتواء ألأزمة ، وتم ألإتفاق بين ألحكومة وألمندوب ألسامي على سحب قوات ألليفي مِن ألموصل إلى كركوك، وأضطر ألملك فيصل إلى السفر إلى ألموصل لتهدئة أهالي ألموصل بنفسه خوفاً مِن تطور ألأوضاع إلى ما لا يحمد عُقباه، غير أنَّ قوات ألليفي لَمْ يتوقفوا عن تصرفاتهم ألرعناء تلك ، بل قاموا بمجزرة جديدة أُخرى أشدّ وطأة، في كركوك بتاريخ 4 أيّار 1924 .
ففي ذلك أليوم تخاصمَ عدد من أفراد قوات ألليفي مع أحد الأهالي في أحد أسواق كركوك ، وأدّى ألخصام إلى جرح أحد أفراد ألليفي ، فما كان منهم إلاّ أنْ ذهبوا إلى ثكنتهم ، وجلبوا معهم عدداً كبيراً من أفراد قوات ألليفي ، مع كامل أسلحتهم وصاروا يطلقون النار على كلّ مَنْ واجههم في ألطريق . وعندما تصدّى لهم أثنان مِن رجال ألشرطة لمنعهم مِن إطلاق ألنار ، أطلق أفراد قوات ألليفي ألنار عليهما وقتلوهما في ألحال ، فلمّا رأى ألأهالي مدى إستهتار قوات ألليفي أندفعوا حاملين سلاحهم للدفاع عن أنفسهم فوقعت مصادمات عنيفة بين الطرفين ، ووقع عدد كبير مِن ألقتلى وألجرحى جاوز عددهم 200 شخص .
ولمّا عِلمَتْ ألقبائل ألمحيطة بكركوك بما قامَ به جنود ألليفي زحفت جموع كبيرة بأسلحتها لأخذ ألثأر منهم . غير أنَّ ألمندوب ألسامي سارعَ إلى إخراج قوات ألليفي مِن كركوك قبل وصولهم ، وتمكَّن مِن ترحيلهم إلى جمجمال ألواقعة بين ألسليمانية وكركوك ، وأصدرَ بياناً إلى الأهالي يدعوهم إلى إلتزام جانب ألهدوء واعداً إيّاهم بإجراء محاكمة للمعتدين ، ودفع تعويضات لأهالي ألمقتولين وتعويض المصابين .
إلاّ أنَّ ألمندوب ألسامي بدلاً مِن أنْ يُنفِّذ وعده بمحاكمة ألمعتدين، أقال مُتصرِّف أللواء ، وعيَّن رئيس ألبلدية بدلاً عنه ، وقام بحملة إعتقالات واسعة في صفوف ألأهالي ، وأرسلَ فوجاً من ألجنود ألبريطانيين إلى كركوك بالطائرات، للحيلولة دون قيام ألأهالي بأيّ أعمال أنتقامية .
أمّا إجراءات ألحكومة ، فلم تتعدَّ تخصيص 30 ألف روبية للأهالي ألمنكوبين في تلك ألأحداث، وألطلب مِن ألمندوب ألسامي نقل قوات محلية للشرطة تقوم مقام قوات ألليفي لحماية ألأمن وألنظام في المدينة، وجعل إدارة كركوك كإدارة بقية ألألوية .
وتحت ألضغط ألشعبي ألغاضب وألمتواصل ، وألمُطالِب بمحاكمة ألمجرمين مِن قوات ألليفي، أضطرَّ ألمندوب ألسامي إلى تشكيل محكمة، برئاسة ألبريطاني بريجادر وعضوية ألحاكمين عمر نظمي وعبد الكريم ألكركوكلي بالإضافة إلى ضابط بريطاني، وألمارشمعون رئيس ألطائفة ألآشورية.
أجرَتْ ألمحكمة محاكمات صوريّة لبعض ألمجرمين ، ولم تُتّخذ أيّ إجراءات فعّالة بحقهم ، حتى أنَّ ألميجر أدمونس قال عن تلك ألمحاكمات مايلي:
“إنَّ ألحكومة ألعراقية، وألرأي ألعام ألعراقي ظلّوا يعتقدون بأنَّ ألسلطات ألبريطانية تحمي ألمجرمين”. ) *
قاومَ ألعراقيون مع إخوتِهم ألتركمان ألأحتلال ألبريطاني لبلدهم بكلِّ ما أوتوا مِن قوّة، ولمْ تكن ألحكومات ألذليلة ألّتي شكلّها ألمُستعمِر أقل قسوة وظلما مِن ألبريطانيين أنفسهم، فقد عانت عائلتي ألأمرّين مِن هذه ألحكومات، فبألأضافة إلى شظف ألعيش، أُعتُقِل والدي محمّد فاتح بتهمة ظالمة، فبسبب إعتزازه بقوميته ومعاداته للإحتلال ألبريطاني ونشاطاته ألسياسية فقد تمَّ تقديمه للمحاكمة ألعرفية وحُكم عليه بالسجن مع ألأشغال ألشّاقة لمدّة أربع سنوات، قضى مِنها في ألسجن سنتان وأُفرِجَ عنه بعد صدور قرار ألعفو عن ألسجناء ألسياسيين بعد أعتلاء ألملك غازي عرش ألعراق.
*ألمصدر: صفحات من تاريخ ألعراق ألحديث للمؤرّخ وألباحث ألتربوي حامد ألحمداني.
…..يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود) للكاتب