بعيداً عن التعمق في سايكولوجية الفرد العراقي والمؤثرات المجتمعية العامة والتي تستند الى دراسات أكاديمية أو فلسفية وربما تنظيريه والتي تؤسس الى جدليات لاحدود لها وبالتالي تنحرف الغاية منها الى محتويات غير واقعيه تستند الى نظريات ورؤى تبقى أسيرة البحث والنهج الدراسي ولاتأخذ على عاتقها وضع الظاهرة في أطارها الشعبي أو تاسيس بيانات وبرامج تتناولها وتدرس النتائج المترتبه عن ذلك , ومن ثم تقوم بتجارب ميدانيه لشرائح من المجتمع مختلفة لتكوين منهج تفاعلي الهدف منه هو تغيير الكثير من الممارسات اللاحضارية والارثيه المدقعه بالجهل وترسبات السلوك اللامدني , وترسيخ الوعي الأدراكي والمفاهيم الانسانية والتربوية المتحضرة , وبالتالي وضع ستراتيجية بمدى مدروس لتحيق أهداف تنموية تنعكس نتائجها أيجابياً على المجتمع ككل .
ومن الظواهر المجتمعية التي نراها وبشكل واضح وملموس هو ذلك الغضب العشوائي والذي لايستند الى منهجيه , فقط للتعبير عن صيحة من هنا أو من هناك ويكون التعبير عنها بغوغائيه لاتؤثر مطلقاً على الغاية المطلوبه منها وربما تنعكس سلبياً عما أُريد منها , ولدينا من الاحداث الاخيرة الكثير من المشاهد والتي تبدأ بتضخيم أعلامي وشعبي وحتى ديني , وتبدأ الصيحات المطالبه بتصحيح المسار ومحاسبة المقصرين ومقاضاتهم , والبعض يتمادى ليقوم بأطلاق التعابير النابية وما أكثرهم في قنواتنا الاعلامية والتي تقوم بنقل الحدث , وهي ظاهرة ( أول هَدّه ) والتي شملت أيضاً الحكومة في كل مؤسساتها وسياسيوها فما أن يتسنم أحدهم منصباً حتى يُرينا الشهد والعسل فيما سيعمله وكيف سيحارب الفساد وكيف وكيف , وبعد فترة من الزمن نرى أن الخدمة المقدمة من وزارته أو مديريتهِ قد تراجعت في مستواها عما قبل أن يتولى المسؤولية فيها , واليكم بعض الهَدّات التي كانت نتائجها السلبية كبيرة علينا , كلنا يتذكر التحقيق بسقوط الموصل وكيف قامت الدنيا ولم تقعد ووصل الحال بنا بالاعتقاد بأن التغيير سيبدأ من تفعيل التحقيق وقيام القضاء بواجبه , والان ولا واحد يتكلم ولو ببنت شفه حتى ممن كان في قمة الحماس والانفعال لتطبيقه , وربما أصبح أهماله سبباً من أسباب دخول القوات التركيه الى الاراضي العراقية .
والحادثه بين كاظم الصيادي وبليغ أبو كلل وما سمعناه من مجلس النواب من المحاسبه ورفع الحصانه مثالاً اخر ولم يتغير أي شئ لحد الان وتم تمييع القضية تماماً وسأترك لكم ما تريدون أن تستذكروه من الكثير والكثير مما حصل في أروقة السياسه العراقيه رغم كل الاظهار الاعلامي والتسريبات والنشر في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي وسترون أن كل الذي سيحضركم لا ذكر له في الوقت الحاضر ولم يوضع حتى كأرشيف للمراجعة .
ومن الهَدّات الاخيره هي المطالبة بمقاطعة البضائع التركيه , وهي أن طُبقت فعلا ستكون أكبر ثورة أقتصادية شعبية قام بها المجتمع قبل أن تقوم به الحكومة , وهنا تستحضرني حادثه حصلت بين عام 1980 وعام1990 حين كنا ننصت الى الراديو الذي كان يشكل وسيله أعلامية مهمه , والصدفة كان لها الدور عندما كنت أستمع الى محطة بي بي سي ( هنا لندن ) وكان هناك تقرير يتحدث عن أرتفاع أسعار الحليب في الاسواق اللندنيه وكانت نسبة الارتفاع ليست عالية ولكنها أرتفعت على كل حال , قررت في نفسي أن أُتابع هذا الحدث يومياً بعد نشرات الاخبار وحسب ما أكده المتحدث عن مواصلة المحطه تغطيتها للحدث , المهم في الامر أن العديد من النساء اللاتي أمتنعنَ عن شراء الحليب أجتمعنَ وقررنَ مواصلة ذلك حتى يعود سعر الحليب الى ما كان , بعد أسبوع واحد فقط وبعد الخسارة التي تكبدها منتجي الحليب , عاد السعر الى ما كان عليه , والمفاجأة أن المقاطعة أستمرت من قبل النساء والسبب في ذلك أنهنَّ يَردنَ معاقبة المنتجين وضمان عدم تكرار ذلك , وتم ذلك بدون صيحات وحرق وتهديدات وبيانات وقرارات , كل الذي حصل هو وعي مجتمعي حضاري متميز وفاعل .
فهل بأمكاننا أن نتوافق أجتماعياً ولو لمرة واحدة فقط ونقوم بطفرة ثورية وربما تكون جينية لنقاطع البضائع التركية التي أُغْرِقت أسواقنا بها , هل نستطيع أن نُسكت صيحات البائعين المتجولين ( على التركي بويه على التركي ) , هل نقدر فعلا أن لانلبس الاحذيه التركيه ونتفاخر بها او الجواريب والملابس الداخليه , كم منا سيستغني عن منتجات الالبان والاغذيه المغلفه فقط في تركيا , هل سيمتنع المتزوجون حديثاً من السياحه في تركيا , هل سيتخلى أصحاب الاثاث والمطابخ وغيرها عن أعمالهم , كم شخصاً فعلاً هتف بالمقاطعة وسيلتزم بها , كم واحد خرج للمطالبة بذلك وهو لايلبس أو يقتني أي حاجة تُنتج في تركيا … ومن هذا لايمكن حصره .
هذا على المستوى الشعبي والتجاري الخاص , أما على المستوى الحكومي فحدث ولا حرج , كم من السياسيين لديه مصالح مباشره مع الحكومة التركية , كم منهم أستورد الاثاث التركي وكم منهم لديه شقه أو فيله في أسطنبول , ماعدد المصطافون منهم خلال السنوات الماضيه وهل سيلتزمون بالمقاطعة , والخطر هو على مستوى المشاريع التي أُحيلت بنسب مختلفه وبسلف تشغيلية ضخمة والتي تنفذها الشركات التركيه في مختلف مدن العراق , هل بأمكاننا أن نتفق على كلمة سواء واحدة فقط وهي أن نعتمد على شعبنا وامكانياتنا وكفاءاتنا ونبني وطناً نسميه عراق الجميع , وما أكثر ما تتمنى النفس وما أسوء ما يكون فعلاً في الواقع ( بس أول هَدّه ) وأن غداً لناظره قريب .