على الرغم من طول عمر الفكر العربي وتراثه وتناوله اكثر المشكلات الانسانية تعقيداً.. الا اننا العرب لا نزال نعاني حتى الآن من قيود وعقبات تقف امام قوة العقلية العربية.. وحول فترات الاخفاقات التي ادت الى خموده والتصورات المستقبلية لمسيرة هذا الفكر.. سأتناول في مقالي هذا تقييم المرحلة السابقة واللاحقة..
ان الدرس المستقبلي ليس رجماً بالغيب وانما هو وعي بتطور الظاهرة المدروسة، وعلى هذا يمكن النظر الى الفكر العربي من ثلاث انتقالات كبرى: الصعود، وهو الازدهارة الكبرى في القرون الاسلامية الخمسة الاولى. والخمود، في القرون الخمسة السابقة علىى النهضة العربية الحديثة. والنهوض، في القرنين التاسع عشر والعشرين.
كان الاساس في الانتقالة الاولى، ان العقل هو اداة التعرف على الواقع، فكان الواقع المتعين المتغير- من حيث نظامه السياسي وتنظيمه الاجتماعي- مجالاً لفعالية الانسان، اذ اصبح الانسان مستخلفاً مسؤولاً عن كيفيات تنظيم هذا الواقع وادارته لصالح تقدمه وسعادته.
وهكذا انصرف العقل العربي الى درس الواقع في ادق جزئياته وأشمل قوانينه، فكان هذا هو الدور الحضاري التاريخي الذي نهض به العرب في تاريخ البشرية.
لقد ادى درس الواقع عند العرب الى وضع اساس المنهج التجريبي الذي بدأت به النهضة الاوروبية، فكأن العرب كانوا حلقة وسطى ضرورية في تاريخ العلم، حلقة بين المنهج الاستنباطي الاغريقي والعلم الحديث الذي نعرفه اليوم.
هذا عن التجريبيين العرب في استجابتهم الصحيحة لدرس الواقع، اما النظريون العرب فقد صاغوا في درسهم للواقع الانساني ادق صياغة للعلاقة بين الدين والعقل، كما صاغوا في درسهم للواقع التاريخي الاجتماعي ادق صياغة حتى ذلك الحين لتطور المجتمعات والعوامل الفعالة في هذا التطور. بلغ الأمر الاول غايته في عمل ابن رشد، وبلغ الامر الثاني غايته في عمل ابن خلدون.
اما ابن رشد فقد كان أكبر شراح ارسطو، ولقد صوره دانتي اليجيري من (الكوميديا الالهية) صورتين، اولهما صورة (الشارح العظيم) والثانية صورة (الفيلسوف الملحد). وليست تعنينا هنا (ارسطية) ابن رشد انما تعنينا (اصالته). وتظهر هذه الاصالة في ان عمله يعد اضخم عمل شهدته العصور الوسيطة في محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين والانتصار للعقل.
لقد سمي ابن رشد فيلسوف العقل عند العرب، وصرف اهم ما ألفه الى تلك الدائرة، دائرة العقل، وله فيها مؤلفان اساسيان.
ومنتهى الامر عند ابن رشد، ان الفلسفة تنظر في الموجود من زاوية دلالته على الموجد. وعنده، ان الشريعة كلفت العقل بالنظر وأوجبت هذا (التعقيل) للفكر، وعلى هذا، فأن الشريعة حق، والفلسفة حق، والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
واما ابن خلدون، فقد اسس فلسفة للتاريخ وعلماً للمجتمع. وقال ان ذلك لم يتأت لأرسطو، واخذ على المفكرين المتقدمين انهم لم ينظروا الى الواقع المعاش، وألتفت هو بقوة الى هذا الواقع. انه يضع الاصول الفلسفية لعمله في مقدمة تاريخية. واهم ابداع علمي لابن خلدون في هذه المقدمة كشف عن ان الاشياء والاحداث والوقائع والعلاقات مترابطة برباط علة ومعلول، لذلك وجبت فلسفة التاريخ وصرف موضوع هذا التاريخ الى حياة المجتمع، وما تمور به من عوامل فاعلة مؤثرة مادية ومعنوية.
يمكن القول، ان الاعتداد بالواقع في مرحلة صعود العقل العربي قد أثمر ثلاث نتائج اساسية عن دور العرب في التاريخ الانساني: النتيجة الاولى هي ان طريقة استقراء الواقع قد وضعت الاسس الاولى للمنهج التجريبي في العلم. والنتيجة الثانية هي ان اعمال العقل قد وضع الاسس الاولى للمنهج العقلي في الفلسفة والنتيجة الثالثة هي ان لمح العلة والمعلول في المجتمعات، قد وضع اسساً صالحة للمنهج المادي في التاريخ.
* الخمود والازدهار
بداية نتساءل: ما العوامل الفاعلة التي ادت الى خمود الفكري، وما الذي جرى في تاريخ هذا الفكر بعد الازدهارة العظمى؟
ان الامور في تاريخ الفكر العربي لم تكن خالصة لهذه الابداعات الفكرية الباهرة التي ذكرتها في تلك المرحلة الاولى. ذلك ان العلم التجريبي العربي لم يؤثر في اصحابه العرب قدر تأثيره في اوروبا –زمن النهضة- ولقد كشفت عنه اوروبا بعد صياغته بقرون. كذلك فان المنهج العقلي من الفلسفة قد أثر في عصر النهضة الاوروبية بأكثر مما أثر في العقلية العربية.
ونضيف الى الأمرين السابقين، ان ابداع ابن خلدون في فلسفة التاريخ لم يعرف الا في القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد كان هذا الفكر المنهجي العربي محاصراً بسلفية غلابة حازمة وبطغيان سياسي واجتماعي قاهر.
فاذا كان هذا هو الحال الذي انتهى اليه الفكر المنهجي، فان الابداع الشعبي الفكري قد اخذ يتخذ له دوراً بارزاً.
ان جمهرة الناس قد حالت بينها وبين ثمرات ذلك التفكير المنهجي حوائل جمة: سطوة المركزية والاستبداد، وسطوة الروح السلفي والارتداد، وسطوة الفقر الروحي وقلة الزاد. هنا تلوذ الجمهرة بسبيلها: سبيل الوجدان. وهنا يكون التصوف حركة شعبية.
ان الجمهرة تصطنع سبيل الوجدان تفتيشاً عن الله –عدالة وكرامة وغنى وحرية- في ذات الانسان. ولقد كان التصوف الاسلامي –ابان نشوئه وفتوته ونضارته- هذه الحركة الشعبية.
كان المتصوفة هم شهود الربوبية في مواجهة النقليين الملتزمين بالعبودية. وكان التصوف سعياً لاحلال الانسان مركزاً علياً في قلب العالم، وسعياً لرؤية الله في الانسان، ولرؤية الله في كل شيء. فوجود المخلوقات هو عين وجود الخالق “سبحان من خلق الاشياء وهو عينها- ابن عربي”. هنا كان التصوف كحركة شعبية، المحتوى روحي والمنهاج وجداني.
فاذا كان التصوف رداً شعبياً على التردي الداخلي في الوطن العربي، فان الابداع الادبي الشعبي قد كان رداً على غموض مفهوم الامة العربية ورداً على غزو الامم الاخرى للارض العربية.
ولقد كان هذا الابداع الادبي بحث وعاء لحكمة الشعب ومستودعاً لخبرة الامة. لم يكن ميثولوجيا تقليدية تسعى الى تفسير الكون والوصول الى غاية في اسرار الموت والحياة متوسلة بالآلهية وانصاف الالهة، وانما كان –خاصة السير الشعبية- سعياً من الامة لانضاح ذاتها القومية ومواجهة غيرها من الامم الاخرى. لقد خلق الشعب العربي (بطله) الملحمي ليواجه به الجور الداخلي والطمع الخارجي. من هنا فان سيف في سيرة سيف بن ذي يزن، انما كانت بطولته في طرد الاجنبي، اذ قاد الصراع بين العرب من ناحية والاحباش والزنوج من ناحية ثانية. كما لمعت بطولة الظاهر في سيرة الظاهر بيبرس عندما قضى على الصليبيين وتصدى للتتار.. وهكذا.
نريد ان نقول هنا، ان الابداع الادبي الشعبي، وهو الضرب الجمالي من التفكير، قد كان اداة فذة لدى جمهرة العرب، يسعون بها الى انضاج وحدتهم ورد اعداء امتهم. فاذا كان الفكر المنهجي قد حاصرته السلفية والاستبدادية، فان الفكر الابداعي الشعبي قد خبا نوره بخمول التفكير العربي وبجمود المجتمع العربي ذاته. توقفت الحركة بل لقد تقهقرت بتمزق الامة الى دويلات وبسيطرة الاجنبي هنا – خاصة في العصر العثماني- صار التصوف شعوذة، وصار الابداع الشعبي تسلية شائهة.
* مرحلة النهوض
بعد ان وقفنا على العوامل المؤثرة التي ادت الى خمود الفكر العربي في المرحلة الوسطية، وعلى مظاهر ذلك الخمود، وعلى الكيفيات التي رد بها ابداع الشعب العربي على تلك العوامل والمظاهر… نناقش هنا العوامل التي ادت بعد ذلك الى المرحلة الثالثة، مرحلة النهوض، متناولين مظاهر هذا النهوض في الفكر العربي، والمحاور الاساسية للتفكير العربي اليوم، والمسار المستقبلي لهذا كله.
يمكن ان ترتد اوليات النهوض العربي الحديث الى اوليات القرن التاسع عشر، كما يمكن ان ترتد العوامل الفعالة في هذا النهوض الى بداية بروز الطبقات الوسطى العربية وما يصاحب هذا البروز من ضعف نسبي في العلاقات الاقطاعية الكلاسيكية والى الاتصال بالحضارة الغربية وما يصاحب هذا الاتصال من تأثر وصراع.
ومن طبائع الاشياء ان تبدأ النهضة العربية –كأي نهضة- بالالتفات الى الموروث ومحاولة احياء (النموذج القديم)، وان يواكب ذلك التفات الى الجديد ومحاولة تأسيس (النموذج الحديث) اي الصراع القديم بين (النقل والعقل) قد اتخذ صورة حديثة هي صراع بين (السلفية والحداثة).
ومن طبائع الاشياء كذلك ان ينهض بين طرفي هذا الصراع طرف جديد هو محاولة اكتشاف (الجدل) بين القديم والحديث بهدف الوصول الى (الطريق الخاص) للتطور العربي في هذا العصر الحديث.
ان غايات النهوض العربي في العصر الحديث قد تبدت في ثلاث عبر عنها التفكير العربي بكافة صوره الابداعية والاكاديمية والحربية والايديولوجية:
الاولى (تحرير الوطن) – فلا ريب في ان التطور العربي الحديث قد كانت مسيرته الاساسية في منازلة الاستعمار الانكليزي والفرنسي والايطالي والاسباني والامريكي والاسرائيلي، اي في منازلة كل ما عرفته البشرية الحديثة من اشكال الاستعمار القديم والجديد والاستيطاني. ولا ريب كذلك في ان حجر الزاوية في هذا التطور العربي الحديث انما هو في تحقيق الاستقلال والتحرر الوطني.
الثانية (تحديث المجتمع) –بتصفية العلاقات الكلاسيكية- عشائرية وقبلية واقطاعية- وانضاج علاقات حديثة تمهيداً لعلاقات متساوية معاصرة . ومغزى التحديث هنا –لغاية من غايات النهوض العربي- تاريخي واجتماعي شامل، ينتظم التصنيع وتحديث الزراعة وتخطيط الاقتصاد وعلمنة التعليم وتحرير المرأة.
الثالثة (تفعيل الفكر)- بالاعتداء بالعقل اداة انسانية نافذة. ومغزى هذا الاعتداء هو ان الفكر الخلاق سبيل صحة التفسير والتأويل والتخريج، وان (الاجتهاد الفكري) سبيل صحة التنظير للواقع والتخطيط له، كما انه سبيل الابداع الفلسفي والجمالي والعلمي.
ولا ريب في ان الاعتداد بالعقل انما ينهي (النظرة الغيبية) ويفضي الى سيادة (النظرة العلمية).
هذه هي الغايات الثلاث للنهوض العربي، وهي التي صاغها التفكير العربي الحديث. لكن هذه الغايات قد تعثرت ولا تزال تتعثر لوجود عقبات ثلاث:
الاولى- اشكالية الاستعمار عالمياً.
الثانية- اشكالية النزعات الانفصالية عربياً.
الثالثة- اشكالية الديمقراطية، محلياً.
ولا تزال امتنا العربية في مواجهتها لهذه العقبات لتزيلها حتى تحقيق نهوضها، ولا يزال الفكر العربي يعكس هذه المواجهة ويصوغ ابعادها، ولن تكتمل صياغته حتى تنجز الامة انتصارها.