يمتد الفرات في عميق الروح بموج وغرين وقصائد واغاني صيد وأنوثة النخل ودموع شهداء واماسي طقوس تعميد عرسان لبياضهم ضوء يشبه تماما ضوء نبي جفاه قومه وهمسوا له :لك ربك البعيد ولنا آلهتنا الطينية القريبة ..!
وحتما كل آلهة الجنوب المصنوعة من خيال رهبة البشر .كانت مجبولة ومصنوعة من طين ضفاف الفرات ، ومن طينه أيضا صنعت التماثيل والنصب وجرار الفخار وألواح الطين التي دون عليها الإنسان الأول المراثي والأساطير والقصائد والشرائع ونحيب الأمهات يوم تفترس الحروب والفيضانات والطواعين وجيوش الغزاة فلذات أكبادهن ..!
يمتد الفرات على خارطة الجنوب بدهشة ما فيه وما يراه ويعيشه مع مدنه التي تغفو على خاصرة الماء تجدد يومها مع هاجس أمل ورغيف خبز واغنية وصحيفة مظلومية تدونها الأصابع المشتكية لحاجب الملك لعله يرحم رغبتنا لنحصل على حق ضاع في شهوة الإقطاعي ورجل البوليس ورب العمل .
على مدى الخليقة بقي الفرات راعيا لأحاسيس مدنه وابناءه ورعاياه ولكنه لن يفعل شيئا سوى غيضه ليعلن طوفانه ولكنه في المحصلة لا يؤذي سوى أحبابه .إذ تغرق بيوت الفقراء ويبقى الملك والأغنياء في قصره العالي في منأى عن الغرق.
على أديم هذا النهر وهذا التاريخ عاش المندائيون يصنعون أرواحهم وبهجتها مع إغفاءة الموج وخرير الماء ومساءات الشمس الهابطة الى بيت الجفن حيث تغفوا نائمة فيما الحكيم المندائي سيظل يقظا ومن فوق غرفته الطينية على الشاطئ سينادم ضوء القمر وحكايات النجوم ومنها سيصنع رؤاه وتنبؤاته وغيب ما سيحدث في الصباح الطالع مع رائحة الخبز وصياح الديك وعطر أشجار السدر المنتشرة في مساحات القلب والبساتين ورسائل الحب..!
كان أهل الجنوب في الأزل البعيد يؤمنون أن الروحانيين وحدهم من يعرفون لغة النهر .ولن المندائيين مسكوا الروح من خاصرتها فقد كان الناس يهرعون إليهم كلما أرادوا مناشدة النهر لهاجس أو أمنية ما تهم عطش النخيل أو توفر السمك أو أي أمنية كانت نساء سومر يعتقدن إن النهر وحده من يستطيع منحها .وربما مجموع تلك الهواجس المرتبطة بهاجس الماء وسحره ولدت طقوس زكريا والتعميد وخروج الأشهر المكتئبة عندما نكسر على أبواب بيوتنا جرار الفخار المليئة بالماء.
جعلت طقوس اليوم الفراتي من حياة المندائي تميل الى عزلة التأمل وفهم الوجود برؤى تختلف عن بقية البشر .لهذا شكلوا في مودتهم مع النهر عزلة أبدية وأسطورية ليبقوا خالدين مع تراثهم ونقاء سلالتهم الى الأبد عندما اندثرت كل السلالات التي جايلت وجودهم منذ خليقة سومر وبابل واكد والفنيق وظلوا هم وارثوا ابد الأيمان والبقاء .يمدون الى النهر ديمومته ويؤدون معه طقوس الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس في تحولاته :يمضي النهر ويتبدل موجه لكن هاجس من يقف على ضفافه ينطق بعبارة واحدة منذ أول البشرية :أنا على ضفافك إقراءك واشربك واعتاش منك..
المندائيون هاجس ملة واناس طيبين احترفوا السلم والغنوص والصلاة الهادئة طريقة لاكتشاف العالم ، أدركوا معه إن الرؤى التي يصنعها تحول الموج وتغلغله بين السواقي وبيادر القمح وافياء البساتين وأجساد العرائس وهن يغتسلن في بهجة الجسد وشهوة ليله .
أدركوا انه يمثل امتداد لعاطفة الوجود وصيرورة التواصل ومعرفة معنى أن نعيش وصير الجنوب ثوبنا ودمعتنا وجرح الحرب والعشق والشكوى.
المندائيون هم الجنوب الذي توارثه أجدادنا في ألفة أزمنة العيش بين الجميع .لا طائفة ولا دين ولاقبيلة …
كان الجنوب يجمعهم تحت راية أمير وملك وكاهن لم يكن ينظر الى الشعب إلا من خلال النذور والسيوف وتبريكات الآلهة .وكان المندائيون جزءا من تلك الكهنوتية الأسطورية ..نالوا ما نالوا يوم احترقت أور وغزوات الاسكندر وجنون كورش في اكتساح ارض الله ليجلب آلهة بابل الى عاصمته سوسة ، ومن كل هذا الركام والمراثي خرج النهر سالما وخرج المندائيون معه يعيشون استمرار الحياة وازلها …
الفرات المندائي هو الجنوب المعطر بالدموع والمواويل ورثاء الحروب والمواسم التي يضيء فيها عرق الجبين وقبلة العاشق وحرف المعلم وهو يخط على لوح الطين تلك العبارة الشاهقة :أيها المندائيون .من الفرات الى الفرات منابع الضوء تلقي دهشتها على صلواتكم……………!