تعاني الدول المنتجة للنفط ومنها ( العراق ) من تداعيات انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية نظرا لعلاقتها المباشرة بحياة السكان وارتباطها بمختلف المؤشرات الاقتصادية ذات العلاقة بالموضوع ، وغالبا ما يطرح السؤال التقليدي لماذا تنخفض الأسعار في الوقت الحالي يوما بعد يوم بعد أن كانت توجهاتها نحو الارتفاع قبل سنين ؟ ، ومن هو المتسبب الحقيقي بهذا الانخفاض ؟ ، ولان هذا الموضوع متشعب جدا ويخضع للعديد من التفسيرات فإننا سنلجأ إلى تبسيط العرض لأعمام الفائدة دون الإخلال بجوهره وموضوعية التحليل ، وبدءا لابد من الاعتراف بحقيقة إن النفط ليس كالسلع الأخرى من حيث خضوعه إلى مرونة العرض والطلب وآليات تحديد الأسعار ، فالعالم يستهلك بحدود 90 – 91 مليون برميل يوميا ويعني ذلك إن زيادة العرض لا يسبب زيادة الطلب لكنه يؤدي إلى انخفاض الأسعار ، في حين إن انخفاض العرض يؤدي إلى زيادة الأسعار بشكل فوري ومباشر ، وبسبب هذه الميزة بالذات نشأت التجمعات النفطية التي تحد من الطمع وتعمل للحفاظ على توازن العرض فمنظمة أوبك من أولوياتها تحديد حصص الأعضاء فيها فلكل عضوا حصة محددة ويجب الالتزام بها بما لا يزيد عن حصتها شبه الثابتة والتي تبلغ ثلث الإنتاج العالمي ( 30 مليون برميل يوميا ) ، كما لجأت الدول المستهلكة لإيجاد البدائل كإنتاج النفط الصخري أو غيرها من مصادر الطاقة لكي تحد من غلو الأسعار ووضع نقطة التعادل بين تكاليف إنتاج البدائل واستيراد النفط .
والدول الأكثر إنتاجا للنفط لها كلمتها في مجال المعروض النفطي ولكنها ليست بالضرورة الأكثر تحكما ، إذ تنتج روسيا بحدود 10,5 مليون برميل تليها السعودية 10 مليون ثم العراق 3,4 مليون ثم الإمارات والكويت وفنزويلا وتليها الدول الأخرى ، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تعد من أكثر الدول قدرة على التحكم بالنفط بسبب تأثيراتها السياسية المعروفة وثقلها النفطي ، حيث تستهلك يوميا 15 مليون برميل وتنتج 7 ملايين برميل وتستورد 8 ملايين برميل من الأسواق العالمية ، وتمتلك قدرات في الاحتفاظ بالاحتياطيات إذ تبلغ بحدود 700 مليون برميل وتستطيع التحكم بهذه الاحتياطيات نظرا لتنوع اقتصادها وقدرتها في التحكم بالدولار العملة الأكثر هيمنة في الأسواق العالمية ، والاحتياطيات الأمريكية بإمكانها توفير الإمدادات التي تحتاجها لنفسها لمدة ثلاثة أشهر على الأقل لذا فإنها تستطيع التلاعب بالأسعار العالمية من خلال بيع النفط وقت ما تشاء ، ففي ظل سياسات عدم الانضباط التي تتبعها الدول لاسيما أعضاء أوبك فإنها تملأ مخزوناتها عند زيادة العرض وانخفاض الأسعار ، وعندما تجد إن الأسعار مستقرة أو راكدة في الأسواق العالمية فإنها تقوم بإخراج جزءا من احتياطياتها لتحريك الأسعار نحو الانخفاض ، فبيع 1- 2 مليون برميل يوميا من مخزونها سوف لا يؤثر على احتياطها ( لأنه يكفي لثلاثة أشهر ) ، وبهذه الحركة تنخفض الأسعار وعندها تأخذ بتعويض نقص مخزوناتها وتعويض خسائر بيع النفط بأسعار منخفضة من خلال الشراء بأسعار منخفضة .
وكنتيجة لما حدث بعد نكسة حزيران 2014 في العراق ، فإن دول المنطقة قد سارعت لشراء الأسلحة مما اضطرها لزيادة إنتاجها النفطي لتغطية جزءا من نفقات التسليح وفي ظل ذلك بدأت أمريكا تتحكم في الأسواق ، فبعد أن انخفضت أسعار النفط لجأت لإطلاق جزءا من مخزوناتها فتهاوت الأسعار ، وبذلك حققت مجموعة من المزايا أولها شراء مخزونات نفطية بأسعار منخفضة وامتلاكها زمام المبادرة في التأثير بالأسعار العالمية وتزايد إيراداتها من بيع الأسلحة لان اغلبها من المدرسة الأمريكية في التسليح ، ناهيك عن توفر الفرصة في بيع أسلحتها القديمة والمتقادمة وتجريب أسلحتها الجديدة ، وإزاء ذلك وقفت الدول المنتجة للنفط مكتوفة الأيدي وتتلقى المزيد من الصدمات بسبب انخفاض سعر برميل النفط إلى أدنى مستوياته حيث وصل مزيج برنت إلى 37 دولار ، وهو اقل انخفاض يحصل منذ 11 سنة وقد حصل ذلك في ظل عجز منظمة أوبك في تخفيض الإنتاج ووجود نقوط مهربة من عدة مصادر ومنها الدول الأعضاء في أوبك وداعش والسراق الذين يحصلون على النفط كناتج من أعمال الفساد الإداري ، كما إن العراق قد قام بزيادة صادراته من خلال موانئ الجنوب التي ارتفعت إلى 4 ملايين برميل يوميا لتعويض إيرادات جيهان في كردستان ، رغم إن الاقليم يصدر 700 ألف برميل يوميا بعد توسيع خطوط النقل بأنابيب النفط ويتوقع أن تصل الصادرات في الشمال إلى مليون برميل يوميا ، وهذه الحصة لم تدرج ضمن حصص أوبك لأنها يفترض أن تكون ضمن حصة العراق .
ويعتقد الخبراء المعنيين بان الحلول لعودة أسعار النفط ووقف تدهورها هو بتقليل العرض بحدود 1,5 مليون برميل يوميا من معدل الطلب العالمي اليومي البالغ 90 مليون برميل ، بشكل يعرض المخزونات الأمريكية للخطر في حالة إطلاقها كمعروض في الأسواق العالمية ، وهي حلول لا يمكن انجازها إلا بموجب تحالفات نفطية غير قابلة للاختراق ، ولكن وقع هذا الحلول ربما ضعف أو انتهى لأسباب عديدة منها انخفاض الاحتياطيات النقدية لدى اغلب المنتجين ورغبتهم في تعويض جزء منها ، مما يعني بيع المزيد من النفط (دون أن ننسى الخسائر التي منيت بها هذه الدول في الأزمة المالية سنة 2008 )، أو تعرض الدول المنتجة الأخرى إلى العجز المالي واضطرارها للاقتراض الداخلي أو الخارجي مما يعني حاجتها إلى مزيد من الأموال من خلال بيع النفط ، ولو أخذنا العراق مثالا لوجدنا ارتفاعا في الإنتاج وتصعيدا للصادرات بحدود مليون برميل يوميا والسعي لرفع الصادرات إلى الأكثر من خلال الاتفاق مع الأردن ومصر لمد الأنبوب النفطي المار إلى الأردن عبر العقبة والذي يمكن أن يضيف مليون برميل يوميا قابل للزيادة بعد المرحلة الأولى من التنفيذ ، كما تحرص السعودية وهي المصدر الأكبر في أوبك على عدم خفض صادراتها والسعي لزيادتها ، فضلا عن عودة إيران إلى السوق العالمية بعد رفع الحظر عنها حيث تحتفظ باحتياطيات للتصدير ودافع لتعويض فترة الحظر ، وهذه التوجهات من شانها تخفيض أسعار النفط إلى مستويات محزنة ربما تصل الى ما دون 30 دولار للبرميل .
وتمثل الزيادات في الصادرات خسارة فعلية لجميع المصدرين وبالذات العراق لان إيرادات التصدير بأقل من 30 دولار وبكميات تتراوح بين 4 – 5 مليون برميل يوميا ربما تكون اقل من إيرادات تصدير 3,5 مليون برميل يوميا بسعر أعلى من 40 دولار ، آخذين بنظر الاعتبار إن النفط سلعة قابلة للانتهاء وان النفط المنتج في العراق تدفع عنه مبالغ إلى شركات النفط العالمية في جولات التراخيص وهذه الأجور تزداد بزيادة الإنتاج ، ناهيك عن تكاليف الخطوط المضافة عبر الأردن ومتطلبات حمايتها وما سيدفع إلى الدول التي تمر بها والموانئ التي تصدر من خلالها ، ومما سيدفع باتجاه زيادة الصادرات العراقية إلى أكثر من المعدلات التي تمت الإشارة إليها هو حجم الالتزامات ، نظرا لعدم وجود مورد آخر لتمويل النفقات المتعلقة بمحاربة داعش وإعمار المدن المحررة وخدمة الديون وتغطية متطلبات الموازنة التشغيلية وانجاز بعض المشاريع والبنى التحتية ، مما يعني إن العراق سيكون ( المرض المزمن ) المتسبب بانخفاض أسعار النفط عالميا وعدم ارتفاعها لأنه سيزيد المعروض العالمي من باب الاضطرار وسيحذو حذوه العديد ، وهو ما يعني صواب نظرة الإدارة الأمريكية بان القضاء على داعش سيستغرق 30 عاما على الأقل ، فهم يقصدون داعش الاقتصاد وليس داعش التواجد العسكري وارتكاب الجرائم والحماقات ، ويمكن إبطال هذه النظرة المتشائمة من خلال مارشال دولي لإنقاذ العراق من الأوضاع التي سيعاني منها لسنين ، نظرا لتهديم العديد من المدن والقصبات والبنى التحتية بسبب معارك التحرير والتي تتطلب أضعاف المبالغ لتعويض الخسائر التي خلفها الاحتلال الأمريكي تحت عنوان ( التحرير ) .