زحف مليوني كبير كل عام نحو كربلاء المقدسة من كافة أنحاء العراق والعالم العربي والإسلامي , يقدر بعشرة مليون زائر , يبدأ في الخامس من شهر صفر وينتهي في العشرين منه ذكرى أربعينية سيد الشهداء الإمام الحسين ( ع) .. رغم البرد القارص والإمطار في فصل الشتاء والشمس الحارقة والحر الشديد في فصل الصيف بدعم حكومي واضح من خلال صرف الوقود كالنفط الأبيض وغاز الطبخ وتأمين سيارات النقل للزائرين إضافة للحماية الأمنية بتحشيد أكثر من ( 30 ) إلف عسكري ومتطوع , مع تقديم الخدمات الطبية المتمثلة بالمستشفيات الميدانية والمفارز الطبية , أضف إلى ذلك تبرعات الأهالي الطوعية بمئات الملايين من الدنانير والمواد العينية , حيث تقدر المبالغ المصروفة على تلك الزيارة بأكثر من ملـــــــيار دولار سنوياً , حتى أعمال التنظيف يتطوع لها عراقيون وأجانب كعمال نظافة مع قيام بلديات المحافظات بتوفر الآليات المطلوبة .. إن الجميع هنا الغني منهم والفقير المتعلم والأمي تراهم في – طريق المشاية – كما يسمى شعبياً , يحملون أدواة التنظيف بكل تواضع خدمةً للزوار وإيماناً منهم برسالة الإمام الحسين الخالدة في التضحية والفداء , هذه التظاهرة العالمية السلمية ضد التطرف وضد العنف تشاهد فيها العطاء الخيالي وتستلهم دروسا في الضيافة والكرم من الأهالي البسطاء الذين لا يتوانون ولو للحظة واحده في تقديم كل ما يمكنهم للزوار دون النظر إلى قيمته وحجمـــــه , و هناك من يقف وسط الطريق ليقدم لك قناني الماء والمناديل أو يرش عليك العطور وماء الورد , إضافة إلى من يقف ويساعدك بكلماته على المشي والتذكير بالثواب, حتى خدمات الانترنت متوفرة في سرادق الأكل والمنام لغرض الاتصال بالأهل والأصدقاء , الأمر ذاته حينما تدخل النساء إحدى مخيمات الاستراحة تستقبلها سيدات وفتيات من اللواتي وهبن أوقاتهن لخدمة الزائرات أسوة بالرجال… تساءلت مرةً لماذا هذه الضيافة المفرطة والصرف الهائل ؟ ونحن نعيش أزمة مالية خانقة يمر بها العراق حالياً بسبب اقتصاده ألريعي الذي يعتمد على تصدير النفط الخام الذي تهاوت أسعاره مؤخراً إلى النصف دون أن تكون لنا موارد أخرى فعالة ترفد موازنة الدولة بالأموال ومنها السياحة الدينية الغير مفعلة كما يجب من قبل الحكومة المركزية السابقة والحكومة الحالية وفق المعايير الدولية أسئلة كثيرة دارت بمخيلتي وتمنيت لو يجيبني عليها أحد من المختصين بالشؤون الاقتصادية والدينية فتذكرت فترة الحصار التي عاشها العراق أيام التسعينيات من القرن الماضي بعد احتلال دولة الكويت من قبل النظام السابق, كيف كان العراقيون يطبخون الطعام ويوزعوه على البيوت والمارة من الناس رغم عسر
الحال وانخفاض قيمة الدينار آنذاك , و منَع الناس من زيارة الإمام الحسين ( ع ) سيراً على الإقدام .. وأتساءل دائماً أليس الفقــــــــراء أولى بهذه الخدمات ونحن أغنى بلد في العالم لولا السياسات الطائشة للحاكمين .. أليست (وفي أموالكم حق للسائل والمحروم ) هي الفريضة التي أوجبها الله على المسلمين , ومن الأجدى بنا إن نتفانى في خدمة المحتاجين والفقراء…. ويأتي الجواب بأن المحتاجين والفقراء يأكلون ويشربون طيلة أربعين يوماً من هذه السفرة الممدودة من جنوب العراق ووسطه وشماله إلى كربلاء المقدسة يتبارى فيها النشامى أبناء العراق الاصلاء سليلي الضيافة العربية الأصيلة والأخلاق الحميدة لتقديم المأكولات والمشروبات لهؤلاء الرجال والنسوة والأطفال – السائرون نحو المجد – بطريقتهم التقليدية المتوارثة من الأجداد ثم الإباء والأبناء .. أتمنى فعلا إن تكون هناك مشاركة مجتمعية من الأهالي والحكومة فقط وليست مشاركة سياسية يستغلها بعض رجالات الحكومة والبرلمان وأحزابه المتأسلمة في خدمة الزوار, وأن تكون هكذا مناسبة بعيدة عن السياسيين الفاسدين الذين يستغلون المناسبات الدينية لإبراز وجوههم الكالحة وأيديهم وجيوبهم الملطخة بالفساد وسرقة المال العام لكي يبرزوا كرمهم المفعم بالسحت الحرام لإغراض انتخابية ليس غير , أتمنى مرة أخرى أن تكون خير فرصة لتغير صورتنا التي بدأت تتلوث بسواد العنف والتعصب الطائفي المقيت الموروث من عفن التاريخ , وفرصة لتطهير النفس الأمارة بالسوء ومحاربة الفساد الإداري والمالي بشكل جدي الذي تذكرنا بمساوئه المرجعية الدينية الرشيدة في النجف الاشرف كل خطبة جمعة .. بعد رحلتي المتواضعة على – طريق المشاية – بين ميسان وكربلاء , لا أتردد في القول مرة أخرى للفاسدين , بان لا مكان لكم اليوم إمام ما رأيناه من عطاء وكرم وأخلاق لخدمة زوار الإمام الحسين ( ع ) وهم الفقراء إلى الله وليس لمن انتخبوهم وخانوا الأمانة التي حملها البعض فكان ظلوماً جهولا , وبدلاً من أن يسير رجالات السلطة هؤلاء نحو المجد الذي سار عليه الإمام الشهيد وصحبه الإبرار سار البعض منهم نحو الفساد والرذيلة , كما قال المفكر الإيراني الكبير علي شريعتي ( 1977 -1933 ) … (( أن مشكلتنا نحن المنتسبين للإسلام منذ قرون , لا تكمن في عدم تطبيقنا للإسلام , بل في أننا لم نفهمه بعد )) .