لا تعدُ مثالبَ فئةٍ ما سوى نقيصةٍ في سموِّهم الذاتي أوتكاملهم الإنساني ، ويسعى بعضٌ ممن ضعُفتْ به نفسُه عن الالتحاق بركبِ العظماءِ متحيناً لفرصةٍ ما لاهثًا وراء ظلال هذه العورات ؛ لعلَّ في ذلك ما يشفي الغليلَ أو تطيبُ به النفوس ، والإسلامُ في مسيرته التشريعية كان ولايزال شامخاً بمبادئه وقيمه متكاملاً في الحكمة من هذه التشريعات ، ملهمًا للذوات الإنسانية معاني الرقيِّ والتحضُّرِ وقِيَمِ المعرفةِ والتطورِ ، لاتشوبُه شائبةٌ ولاترقَى إليهِ عائبةٌ ، الأمرُ الذي من شأنهِ أن يثيرَ حفيظةَ مناوئِيه مِمنْ تقطَّعتْ بهم سُبُلُ النَّجاحِ عن مُجاراةِ التكاملِ في هذه التشريعات ، وقَصُرَ بهمُ الفهمُ عن الوقوفِ على سرِّها ، وبدافعِ الشعورِ بالنَّقصِ وكذلك النظر إلى الإسلام نظرةَ المنافسِ من دونِ أن يكونَ نبراسًا لهم راحوا يتربصون به ريبَ المنون .
وأخذت صفحاتُ اليأس تطوي هذه الذواتِ الخاويةَ لولا أن لّاحَ لهُم بصيصٌ من الأملِ ؛ اشرأبتْ له الأعناق وتطاولت إليه النفوس وصفقت معه الأكُفُ حيثُ مُزِج فيه الخطأُ بالصوابِ وتشوه الصحيح بالغلط وانحرف المستقيمُ عن جادة الصواب .
في هذه الأيام يسعى بعضهم إلى ضرب الإسلام بالإسلام عبر من يدعي الانتساب إليه في ممارسات توصدُ طريق الانتماء إليه وأشرعَتْ باب الافتراق والانفصام عن مبادئِه وقيمِه على مصراعيه ، وينبغي الاعتراف هنا أن الخسارة باهضة الثمن والفاجعة مؤلمة.
وفي هذا الإطار ينبغي أن لاتُخلط الأوراقُ لتضيعَ الحقيقيةُ بينها ، فمها يكن من أمر فلابدَّ أن نفهم أولاً وآخراً أن الإسلام غير المسلمين ،و أن لايغيب عن أذهاننا ضرورة عدم المزواجة بين التنظيرالتشريعي وتطبيقه التي تؤدي إلى نسبة الخطأ إلى التشريع في مرحلة تطبيقه على وجه الكلية والانطباق ، فكثيراً ما يتسربُ الخطأُ حين الانتقال من مرحلة التنظير إلى التطبيق في كثيرٍ من ممارسة القوانين .
ولعلَّ السببَ في هذا الانحراف هو حبُ الذات وسعيِها للإلتفاف حول نصوص القوانين وتوظيفِها لتحقيق المصالحِ الفئويةِ الضيقة ، وهو ما نلمسُه بوضوح عند كثيرٍ من السياسيين مِمَنْ وظَّفوا بعضًا من النصوص الدينية وأخضعوها لخدمة أهوائهم وتمرير مشاريعهم ذات الأبعاد النفعية على حساب مصلحة المجتمع .
لكن ما يميزُ التشريعاتُ الإلهية عن القوانين الوضعية في مرحلة حصول الخطأ حين الانتقال من البعد النظري إلى البعد التطبيقي في ممارستها هو عدم تأثر هذه النصوص الدينية بأخطاء الممارسة ومن جهة أخرى وجود البعد الافتراقي الذي يُعد بمثابة حصُنُ الأمان من الانزلاق ، ومفهومه أن من يدَّعي الانتسابَ إلى دائرةِ هذا التشريع ( الإسلام ) يبقى في حيزه مادام مطبقًا له بصورة صحيحة ، إلا أنه سرعان ما يُلفظُ بعيدًا إذا ما أرادَ أن يغرِّدَ خارجَ السربِ ويلِّوحَ بالخروج عن المصداقية فيكون الافتراق جلياً بينهما .
وتأييداً لذلك فإن (الصلاة) كمظهرٍ تشريعي لعلَّها تُعدُّ الأبرزَ بوصفها ضابطاً في تحديد صحة الانتماء إلى الإسلام من عدمه ، ويأتي في هذا السياق كثرةُ الآياتِ القرآنية التي تعكس أهمية هذا السلوك ، وعلى الرغم من هذه الأهمية بيد أنَّ هذه النصوص لاتصرِّح بجعل الصلاةِ الضابط المُمَيِّز بين المسلم الحقيقي ومن يدَّعي الانتماء إلى الإسلام ؛ فكلاهما يؤدي الصلاة ولذلك لانلمس نصًا يدعو إلى الكون مع ( المصلين ) لأن هناك من يتلبس بالصلاة ويتخذها جلبابًا لتحقيق مآربه ، ولعلَّ ( الصدق ) بحسب فهمي يُعدُّ الضابط المثالي الأسمى ونقطة الافتراق في بيان حقيقة الانتماء من عدمه التي تفصل بن الفريقين ، و هنا جاء النص القرآني أكثر إيضاحا في بيان هذه السمة في قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ )) التوبة – الآية – 119 تأكيدًا لهذه الحقيقية , فالفرق بين ( الصلاة ) و ( الصدق ) أن الأولى يمكن أن تستغل كوسيلةٍ للتظاهر بشرف الانتماء ومن ثمَّ تمرير المنافع والمصالح الفئوية ، في حين أن ( الصدق ) لايمكن أن يُخترق من هذه الجهة ؛ إذ لابدّ في تحققه أن يتطابق الظاهر مع الباطن أو السلوك مع المعتقد أو المُدعى مع الواقع الخارجي ، فما أحوجَ مجتمعاتنا اليوم إلى اتخاذ الصدق سلوكًا ماثلاً في كل معاملاتنا للوصول إلى برِّ الأمان فما أكثر المصلين وأقل الصادقين .