كيف يمكن ” للمؤمن ” الهادئ القانط ذو “الاخلاق ” الدمثة والمنتحل لصفة الوداعة والطيب والذي يتعامل بأرق المفردات اليومية في سياق التعامل المعتاد أن يتحول الى قاتل دموي يستبيح ارواح المئات ويجيد تكنولوجيا وتكنيك ورسم الخطط الدقيقة في إحكام السيطرة لإحلال الدمار على مناطق كاملة واستباحة دماء ساكنيها بتلك السهولة المجردة عن الحد الادنى من الاخلاق والمشاعر الانسانية. كيف يمكن لذلك المجرم الدموي أن يجيد لغة التسامح في تعامله اليومي: الله يبارك فيك, الله ايخليك, الله يرحم والديك, الله يجنبك كل مكروه و ويقترح عليك أفضل الخدمات للمساعدة, واستعداده المتفاني من أجلك والذي يثير الاستغراب, ولكنه بالمقابل يرتكب أشنع الافعال ضدك في اللحظة عندما يراك مخالفا لسنة تفكيره, إنها سيكوباتيا السلوك المنحرف !!!.
تلك سيكولوجيا الاعتقاد الإيماني المتحجر الذي لا يرى الخير الا في خانته, ولم يرى في الآخر إلا شرا مطلق يجب تصفيته بأكثر الوسائل بشاعة, حيث إنسانيته هنا لا ترتبط بمبادئ إنسانية عامة متعارف عليها في منع الشر وأباحة الخير, بل ترتبط بمدى قربها او بعدها من قناعته المتحجرة التي ترتبط بخطاب ما ورائي, يحلل الحرام فيه ويحرم الحلال, ويرى في صحته مطلقا بعيدا عن منطق العقل وتراكم الخبرة الانسانية. والابادة الجماعية والفرديه هنا لديه خيرا مطلق يثاب الفاعل ـ المجرم عليها بمزيدا من الأجر والثواب والمزايا التي تراوده في أحلام يقضته ليلقاها في آخرته !!!.
لقد تركت لنا البشرية ومسيرة الحضارة تراكما ايجابيا لإحكام السلوك الانساني وتقنينه والحكم عليه, وبالتالي وضعت معايير وتصنيفات لتلك الجرائم المرتكبة بحق الانسانية, ومنها بشكل خاص جرائم الإبادة الجماعية, والتي كانت ولاتزال محط اهتمام الكثير من المنظمات الانسانية والدولية, حيث توصف جرائم الإبادة الجماعية بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها “جريمة الجرائم”، فهي وكما تشير بعض المصادر سياسة للقتل المنظم المرتكبة تنفذ بحق مجموعات من الأشخاص على أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي، وقد صنفت كـجريمة دولية في اتفاقية وافقت الأمم المتحدة عليها بالإجماع سنة 1948 ووضعت موضع التنفيذ عام 1951 بعد أن صادقت عليها العديد من الدول. وحتى الآن صادقت عليها أكثر من 313دولة على هذه الاتفاقية بينها الاتحاد السوفييتي ” روسيا حاليا ” والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأخرى.
وفي هذه الاتفاقية، بموجب المادة الثانية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا فرض تدابير تستهدف تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخرى.
كذلك نصت المادة 18 من مشروع مدونة الجرائم ضد أمن وسلامة البشرية لعام 1996 على تعريف الجرائم ضد الإنسانية وتحديد صورها بأنها “كل فعل من الأفعال التالية عند ارتكابه بشكل منتظم أو على نطاق واسع أو بتحريض أو توجيه من إحدى الحكومات أو من أي منظمة أو جماعة، وتشمل القتل العمد – الإبادة – التعذيب – الاسترقاق – الاضطهاد لأسباب سياسية أو عنصرية أو دينية – التمييز النظامي لأسباب عنصرية أو إثنية أو دينية والذي يشمل انتهاك الحقوق والحريات الأساسية للإنسان ويؤدي إلى ضرر جسيم بجزء من السكان – الإبعاد التعسفي أو القتل القسري للسكان – الاحتجاز التعسفي – الإخفاء القسري للأشخاص – الاغتصاب والدعارة القسرية والأشكال الأخرى من الاعتداء الجنسي – الأعمال اللاإنسانية الأخرى التي تلحق ضررًا جسيمًا بالسلامة الجسدية أو العقلية أو بالصحة العامة أو بالكرامة الإنسانية مثل التشويه والإصابات الجسدية الجسيمة.
وقد جاءت تلك المدونة على ذات نهج مدونة 1991، إلا أنها أضافت لها صور الجرائم التي تتمثل في التحريض أو توجيه من إحدى الحكومات أو أي من المنظمات أو الجماعات، مع استبعاد الحالات التي ترتكب فيها تلك الجرائم بواسطة فرد بتصرف ذاتي منه دون دعم أو تشجيع أو توجيه من حكومته أو جماعته.
من الناحية السيكولوجية الخالصة فأن جرائم القتل والارهاب وزرع الرعب تعبر عن سلوكا عصابيا مرضيا معمدا بدوافع التركيز الشديد للانتقام من الاخر المغاير في صبغته الدينية والقومية والمذهبية والطائفية والجنسية والثقافية وغيرها من الفروق المختلفة, ومبررة ارتكاب هذه الجرائم بخطاب فكري وديني وثقافي مغاير وذو مسحة اقصائية للاخر. ومن الناحية النفسية فقد نجد في ابرز ملامح ديناميات السلوك التي تكمن ورائه بما يأتي:
1 ـ سيطرة الغريزة التدميرية والفناء مقابل غريزة الحياة والبقاء, وتتخذ غريزة التدمير مسارين, أحدهما ضد الذات, وقد يكون متزامنا بفناء الاخر كما هي العمليات الانتحارية أو ليست بالضرورة, فيكتفي المرء بفناء نفسه. وتنشأ الغلبة لغريزة
الموت على الحياة من خلال تشبع الفرد بثقافة الاقصاء وتحريم الاختلاف وعدم تقبل الاخر , الى جانب اعتناق الافكار والمعتقدات الدينية وغير الدينية بطريقة عقائدية متحجرة, فتلغي بدورها قيمة التنوع والاختلاف, مما يسهل نشوء منظومة سلوكية تدميرية تضعف عوامل البقاء الصالح المتوازن وانهائه, وبالتالي انهاء الحياة كاملة على خلفية الاعتقاد ان كل ما موجود هو خاطئ باستثناء ما يعتقده هو فقط !!!.
2 ـ ضعف وتداعي “الانا العليا ” من أخلاق ومعايير ونماذج مثالية للسلوك, وغياب لدور الانا التوفيقية, وسيطرة سائدة ” للهو ” الذي تلعب فيه الغرائز البدائية وذات الطبيعية الحيوانية دورا كبيرا في تشكيل ملامح شخصيته. فهو يتصرف هنا بفعل توقف عملية النمو النفسي لديه موئلها رموزه الدينية والسياسية والحياتية, وتسود ملامح شخصية قوامها عقدة النقص وتنشأ على خلفية ذلك وتشتد مشاعر الاثم والاحساس بالضعف وعدم المقدرة الاستقلالية والخضوع التام لرموز دينية وسياسية وقومية يسلم أمره لها, يقابله تحميل الاخر المغاير له كل عوامل ضعفه واسقاطها عليه, وتصل الى حد الانتقام والابادة للاخر المختلف واستأصاله وتدميره !!!.
3 ـ تضخم الانا العليا والشعور المتزايد بضغوطات الضمير وعدم المقدرة على ايجاد حالة من التوازن في الديناميات النفسية عبر حلول الانا, والاغراق في ممارسة معاقبة النفس وتكريس مشاعر الاحساس بالذنب في اجواء من هيمنة الاكتئاب والاشمئزاز من النفس والسعي المتزايد لانتقاد النفس وتخليصها من الهلاك وصولا الى الهلاك الذاتي المتمثل في محاولات الانتحار أو ممارسة التفجير الذاتي في وسط من يراهم مغايرون له في الدين والمعتقد !!!.
4 ـ تقاطع هذاءات ” بارانويدا ” العظمة والاضطهاد في السلوك التدميري في السياسة. وإن كان هذا المصطلح يعني مرضا عقليا خطيرا بشقيه ” داء العظمة وداء الاحساس بالاضطهاد ” فأنه في السياسة له دلالته الخطيرة, حيث النظم الدكتاتورية والقمعية البوليسية المؤدلجة منها والمتأسلمة والشوفينية والعنصرية والمبتلاة بداء العظمة تستخدم كافة وسائل العنف من خلال اجهزتها العسكرية والامنية المخابراتية القمعية المختلفة لإلحاق الاذى بشعوبها أو شعوب أخرى للتعبير عن الاحساس المفرط بالعظمة وسلوك الهيمنة المطلقة !!!.
يقابله في الطرف الاخر الاحساس بالمظلومية والاضطهاد المفرط والمنفلت من أي مسحة إنسانية أو فهم لظروف وقوانين الصراع الموضوعية, هو الاخر يحمل في طياته دوافع الخراب والعنف والتدمير الشامل, ويشكل هذا السلوك ردود فعل عنيفة يخرج عن دائرة التغير الايجابي الممكن للاوضاع السائدة, وغالبا ما يكون هذا السلوك مؤطرا بخطاب المذهبية والطائفية والشوفينة العرقية ويكون بيئة صالحة للارهاب المجتمعي والدولي, في ظل غياب خطاب عقلاني انساني سائد مفعم بعوامل البقاء الانساني والذي يحافظ على قيمة الوجود الانساني الحر. وهكذا تتبادل الادوار بين الجلاد والضحية !!!.
5 ـ فصام ” شيزوفرينيا ” السلطة وفصام المعارضة. الفصام باعتباره مرضا عقليا يحرم صاحبه من ادراك الواقع الموضوعي والعيش في عالم مرضي خاص يفتقد الى المشاعر والعواطف التي تربطه بالاخرين وغير مكترث بما يحل بالاخرين من هول ومصائب, كما تسيطر الاوهام والهلاوس وأضطرابات الفكر في سياقاته اليومية. النظم القمعية بمختلف مظاهرها وأشكالها المؤدلجة منها والمتأسلمة وبما فيها أيضا الدكتاتوريات العالمية تعاني من ظاهرة الفصام حيث الهوة الواسعة بين الشعب والنظام, من حيث ادراك مشكلاته الحقيقية وظروفه المعاشية ووسائل النهوض به. وبفعل هول الاوهام التي تحيط بالنظام فأنه لا يرى في الشعب أو جيرانه الا مؤامرة كبرى تستهدف استئصاله وعليه ان يبدأ بضربته الاستباقية, من ممارسة واسعة للقمع والارهاب والتعذيب والقتل في الداخل واشعال الحروب الخارجية.
أما المعارضة التي تنتحل خطابا آخرا فصاميا بعيدا عن واقع الحياة وقد عفى عليه الزمن لأقحام مستقبل المجتمع فيه وأكراه الناس على اعتناقه أسوة بما فعلت الدكتاتوريات القمعية بشعوبها, فهو خطاب الانفعالات الضارة التي تعبأ الناس في وجهة انفعالية تدميرية لايمكن التنبوء بحجم الخراب الذي ستفعله في تفتيت وتشويه الينية الاجتماعية والثقافية وتخريب العلاقات الانسانية على نطاق واسع, كما هي الخطابات الاسلاموية المغلفة برحمة السماء وحب الآلهة واليوم الموعود, فقد انتجت تلك الخطابات في العراق وتونس وليبيا ومصر واليمن, وفي زمن قصير جدا, المزيد من التعسف والتهجير والابادة الجماعية والقتل على الهوية الدينية والطائفية والاثنية, واستباحة الجنس الآخر من دعارة وبيع للنساء في سوق النخاسة وأكتشاف اشكال لا تعد ولا تحصى من الزواجات بأسم الدين ومستقبل مجهول !!!.
6 ـ الفشل والاحباط في بلوغ الاهداف, فكلما اشتدت وطأة المشاعر بالاحباط إشتدت هي الاخرى مشاعر الكبت والاحتقان, وهي مؤشرات تنذر سيكولوجيا بعدوان تشتد وطأته كلما كانت الاهداف مهمة واستراتيجية في حياة الفرد والجماعة كما هي في سلوك الحكم و ” المعارضة ” وهو بمثابة جرح نرجسي كبير لكلا الطرفين مما يدفعهم لتعبئة كافة القوى المتاحة لديهم لاحلال الدمار بالاخر, ويكون ضحيتها شعبا بكامله وسيادة وطنية ونسيج اجتماعي, في ظل حاكم لا يفقه لغة الحوار والاصلاح ” ومعارضة خاصة ” لا تجيد غير السلاح المعمد بمشروعية السماء, فيكون القتل على أشده بين طرفين لا رحمة فيهم !!!.
وعلى العموم فأن الارهاب الذي تسبقه عمليات تعصب وتطرف مستميت وعمليات غسيل دماغ يرى في الاخر الديني والثقافي والاثني والسياسي عدو لدود ويجب تصفيته وازاحته من مشهد الحياة, انه فوبيا الاختلاف مع الاخر وعدم المقدرة على ايجاد لغة مشتركة معه, وبالتالي فأن الطريق السهل هو تصفيته وابادته جسديا وعرقيا وثقافيا للخلاص من كل اثاره.
كما ان دخول الافراد من مزاج متعصب ومتطرف في مجاميع وتنظيمات تستجيب لهذا المزاج المضطرب يحول الفرد بضرورة الانتماء الى مستسلم لارادة الجماعة ورهن تصرفها ويتحول الى قنبلة موقوته ممكن ان تتفجر رهن اشارة قيادي من المجموعة, بمختلف الاتجاهات وبمختلف الامكنة في العالم !!!.
هذا العمل الجنوني يلقي الاستحسان والدعم والرعاية الابوية من دول راعية للارهاب العالمي على مر عقود من الزمن. قد تختلف اسماء المنظمات الارهابية ” القاعدة, جيش النصرة, داعش, أحرار الشام, بوكوحرام, والنقشبندية والقائمة تطول وتتشظى…..” من خلال انشطاراتها المستمرة وتكيفها لظروف عملها الارهابي التدميري للانسانية, ولكن الداعم واحد ممثلا بالفكر المتطرف والارهابي الاكبر, ومنها دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية وفكرها الوهابي التخريبي والمحرض على الفتنة العالمية وقطر وحليفتهما تركية واداور أخرى متباينة لدول الخليج العربي !!!.
ما حصل أخيرا لفرنسا وروسيا أسوة ببقية العمليات الارهابية في كل مكان هي جرائم ابادة جماعية ترتكب بحق الانسانية, وكما ادان العالم أغلب جرائم الابادة الجماعية التي وقعت في الحروب العالمية وفي التاريخ عموما, عليه ان يدين هذه الجرائم النكراء ويقدم منفذيها ومنظريها الفكريين والدول الداعمة لها فكرا ومالا وقدرات لوجستية وعسكرية الى العدالة العالمية !!!