17 نوفمبر، 2024 5:15 م
Search
Close this search box.

سباق الجرذان

سباق الجرذان

عندما توحي هذه العبارة بكلمتيها Rat Race، الى سباق الجرذان – تنافس عنيف احمق حسب المعجم ثنائي اللغة، فانها عبارة عامية تعني غير ذلك في الشارع الامريكي. ومن حيث التصريف عبارة رسمية، ومن حيث المعاني الدالة تضم اكثر من خمسة معاني من بينها الاضطراب والتشويش والعيش من غير هدف واللهاث، والتسارع بالجهد من غير زمن كاف.

ثم يبدأ اللسان السياسي الامريكي يستعملها استعارة وتورية في امور اخرى واستعمالات خاصة لايقاع اكبر أثر نفسي في المستمع او القارئ العام او العادي. ومن الغريب فعلاً ان تبدو السياسة الامريكية في المنطقة العربية ومن ثم في منطقة الشرق الاوسط العربي والخليج العربي كأنها Rate Race، فلا هي مفهومة على نحو موضوعي ولا هي واضحة على نحو مناسب عند افتراض أعلى درجات حسن الظن عبر مكاتب السياسيين العرب المرتبطين عضوياً او نفسياً او ثقافياً او اقتصادياً بتمثال الحرية في نيويورك.

اما اذا انتقلنا الى اكثر المعايير الواقعية في تقدير مستوى السياسة الامريكية هذه في المنطقتين، فأنها لن تصير غير Rat Race مدروس ومتقن، لانه معد في مكاتب سياسية وفنية واستخبارية لا تشبه المكاتب اعلاه في شيء. اي ان الوجوه العربية تقابل في العلن وجوهاً ليست هي التي تقرر او تقود وانما هي التي تشترك في سباق الجرذان حسب، اما الذين يقررون ويقودون فأخرون، لا يستطيع احد سياسي العرب مقابلتهم، لا في مجاملات البروتوكولات الدبلوماسية ولا حول الطاولات المستديرة، لانهم يجتمعون في غرف نصف نصف مضاءة وحول طاولات غير مستديرة –مستطيلة او مربعة- ولا يستقبلون الا شخصيات بيدهم قوة صنع القرار في الحاضر والمستقبل او في الظرفين معاً وعلى نحو لا تستطيع معه كل وسائل الاعلام الامريكية معرفة ما يدور على هذه الطاولات… برغم كل الليبرالية وبرغم كل الاستخبار الصحفي والخاص وبرغم كل الرشاوي والمكافآت والاغراءات الاخرى…

ان Rat Race السياسة الامريكية في الاقطار العربية ليس غامضاً على معدية كما هو على بعض، كما انه ليس واضحاً لجميع الامريكان كما هو واضح لبعض العرب الآخرين. انها سياسة (خبط عشواء) في الظاهر ورحلة (حمام زاجل) في الخفاء، الخفاء الذي حجمه صغير وفعله كبير وخطير، والظاهر الذي حجمه وفعله صغير وكسير. بيد ان استيعاب هذا الواقع يتطلب دراية في التاريخ السياسي الامريكي على نحو دقيق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على مستوى الكون ومنذ لحظة ولادة اسرائيل قيصرياً ومن غير مسكنات على مستوى المنطقة العربية والشرق الاوسط، فنشاء بين المولود الجديد والام القديمة وشاج مخابراتي تنسيقي يصل لقمة الخبز بيد الفلاح المصري وملعقة الفول بيد المواطن السوري وحبة الفلافل في فم العم الاردني وقلم الرصاص بيد الطفل العراقي… ثم صعوداً الى آخر البرامج العلمية الجامعية والاكاديمية في الفيزياء النووية والهندسة النووية والليزر والبلازما في مختبرات الوطن العربي كله.

انهم يخشون العراقي ويهابون العربي اذا اجتمعت فيه التقنية والاقتصاد والديموغرافية. ولما كان العربي يملك الارض والماء والتاريخ، فلا يبقى امامه شيء الا ان يكتشف نفسه، فاذا واجه سباق الجرذان العنيف الاحمق فان البحث سينتقل الى جهة اخرى، الى لقمة الخبز وقلم الرصاص، اذ بهذا تذهب الدقائق والسنوات تسلسلاً في سباق ليس له نهاية ولا يتضمن اصولاً وقواعد محددة، وتبقى (الفتاة المدللة) تصنع الرؤوس النووية وتخزنها، اين؟ لا احد يعرف؟!

وتبقى اسرائيل تفكر وتعمل وتصنع وتنتج وتفتك وتقتل وتنتهك وتسرق وتزور وتحرق وتهدم وتسجن وتغتال في سباق آخر ليس فيه تشويش ولا اضطراب ولا يفتقر الى الهدف، لانه مضمون بصك امريكي مصدق على نحو استراتيجي، قانوني وواقعي، فسباق الجرذان العنيف الاحمق انتقل من اللغة الامريكية الى العمل العربي، فتحول بقدرة قادر الى سلوك ملموس وغير منظور، مع انه لم يدخل اللغة العربية استعارة او اشارة ولو مرة واحدة.

كيف نقاوم سباق الجرذان هذا بحق السماء؟! كيف نتغلب عليه وشرار العرب يقودون جامعتهم، وشرار العرب يرسمون مستقبلها، واخيار العرب لا حول ولا قوة امامهم او من خلفهم او على يمينهم او على يسارهم لأن الحكم من عاصمة الى عاصمة يأمر بتبديل (فانيلة) اللعب ويقترح تغيير ارض الملعب، ويمنح من يشاء ميدالية الفوز قبل نهاية السباق، لان الـ Rat Race ليس له نهاية، وعلينا ان لا ننسى ذلك قط.

ايها السادة، ايها الاشقاء، ايها العرب بالنسب او الانتماء، اما آن لكم التوقف عن المشاركة في هذا السباق اللعين فتصمموا لوطنكم الكبير وامتكم المجيدة سباقاً آخراً ينقض مقومات هذا السباق اللعين ويبعدها الى تحت الارض فوق النفايات؟

فشرف القهوة العربية وكرامة العقال العربي اصبحا في مهب الريح الامريكي الاسرائيلي، والذين تحولوا منها الى النسكافة والقبعة لم يحصلوا على الدولار ولم يوفروا الكافيار. واذا شئتم فتأملوا حال العرب وحال وطنهم –اقتصاد، سياسة، ثقافة، عافية… ثم المجتمع العربي الآن وبعد سنوات… تصوره فقط وضعوا له خطوط حدوده، ومؤشرات واقعية، واشاراته وقسمات وجهه الذي سيطل على قارات موحدة… ليس المطلوب اكثر من قليل من التضحية وقليل من الشجاعة وقليل من الاحترام وقليل من الفهم… ولكن مع كثير من النية الحسنة والاخلاص، وفي كل الاحوال ليس مقابل اي منها جرح او تجريح، دينار او جنيه او درهم… بل كلمة طيبة صادقة وليس كلمة طيبة مجردة، فالكلمة الطيبة صدقة اذا كانت صادقة كما نعلم، واذا كان هناك من يتصور اننا نقرع في فراغ وعلى حديد بارد، فانه على خطأ تام، لأن الحل الوحيد والصحيح والناجح من وجهة نظر اخلاقية وعلمية وتاريخية… هو هذا الذي قلنا.

[email protected]

أحدث المقالات