18 ديسمبر، 2024 6:55 م

حزب التحرير.. تحنيط الزمان

حزب التحرير.. تحنيط الزمان

ليس غريبا أن يستمر التحرير في الاستقواء على الدولة مستغلا حالة الفوضى والضبابية المنسحبة على كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
في تونس فقط، بات للخارجين عن منطق المكان والزمان ومقتضيات العصر ومستلزمات المصر وتراكمات الدولة الوطنية واستحقاقات ثورة 14 يناير، فضاء ومجال ومساحة للمخاتلة التاريخية والاحتيال السياسي وتسريب رمال الأوهام في عقول المريدين والأتباع.

صحيح أنّ حزب التحرير يعيش ثنائيّة المكابرة والاغتراب في سياقاتها الإعلامية والسياسية، ولكنّه أيضا يعيش فترة التموقع صلب المشهد السياسي التونسي بعد أن برهنت الأحزاب السياسية على إفلاس حقيقي في تقديم البدائل الاقتصادية والاجتماعية ووضعت البلاد والعباد على حافة “الدولة الفاشلة والمفلسة”.

فالكيان السياسي المسمّى حزب التحرير يستعدّ لعقد مؤتمره السنوي تحت عنوان “الخلافة محررة البشرية من اضطهاد الديمقراطية”، موظفا الوضعية المحلية التعيسة التي تعيشها البلاد من غضب جهوي واحتقان اجتماعي وقصور للطبقة السياسية بشكل عامّ في اجتراح الحلول المؤمنة لكرامة المواطن واستقلالية الوطن.

يجمع حزب التحرير بين الشعبوية من جهة، والانقلاب على الجمهورية من جهة أخرى، فهو يتقاطع مع الشعبويين في المزايدة على النخبة السياسية وفي اتهامها بالعجز والقصور وبارتباطها بـ”صناديق سوداء” في الداخل والخارج، ولكنه أيضا-وهو الخطير-لا يتردد في تصفية الحسابات الأيديولوجية مع الجمهوريات والديمقراطيات ومدنية الدولة.

بعبارة أدقّ، يعارض التحرير النخبة السياسية باعتبارها نتاج دولة مدنية لا بد من تغييرها، ويندد أيضا بالتمدّن باعتباره تجسيدا للدولة العصرية التي يتناقض معها، ويتباين مع الدولة لأنّها نتاج تراكمية الحضارات ومصبّ مجرى الأفكار والفلسفات ولأنّها رحيق الزمن الإنساني الذي يسعى التحرير إلى تحنيطه في مكان وزمان محددين.

يوظف التحرير فشل السياسيين من أجل إفشال الدولة، ولتحويل غضب الشباب والعاطلين عن العمل وخيبة أملهم من أكاذيب وأراجيف الأحزاب، إلى اقتناع بأوهام الحزب وبالسراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يسرّبه لقطاعات معتبرة من الشعب التونسي فقدت الأمل من اللعبة السياسية والديمقراطية.

ليس غريبا أن يرجع حزب التحرير إلى المشهد السياسي والأيديولوجي التونسي اليوم، مدفوعا بجرعة من القنوط واليأس الشعبي حيال الأوضاع الآنية ومستغلا لحفلة الرقص المقنّع الذي بدأته الأحزاب السياسية سعيا لاستجلاب الأصوات في الاستحقاق البلدي القادم.

وليس غريبا أيضا أن يستمر التحرير في الاستقواء على الدولة مستغلا حالة الفوضى والضبابية المنسحبة على كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ومجيّرا لانكباب الفاعل الرسمي على مجموعة من الأولويات الأمنية والعسكرية والمالية ليعيد على التونسيين ذات المقولات المغلوطة بأنّ دواء الدولة في التخلص من الدولة، وأنّ ترياق السياسة في ضرب المجال السياسي.

في كلّ مرحلة من مراحل الاستعصاء التي مرت وتمر بها البلاد، يظهر التحرير بندوات تارة وبمؤتمرات مرة ثانية في صورة المخلّص الحضاري للأزمات البنيوية التي تمر بها الحداثة والليبرالية والرأسمالية والنظام الكوني الجديد.

وعلى عكس الأطروحات الفكرية والفلسفية المعتبرة التي تنظّر لما بعد الحداثة حيث يستفاد منها ويبنى عليها يأتينا التحرير بمقولات ما قبل التعصير وما قبل الأنسنة الحضارية في شكلها التوافقي.

ولئن كان التحرير في شكل من الأشكال يمثّل امتحان الدولة الوطنية على إبراز قدرتها على الحكم والتحكم وأحقيتها في الشرعية والمشروعية وأولويتها بضمان تكريس وتطبيق العقد الاجتماعي، فإنّه يجسّد أيضا الاستحقاق الأهمّ للنخبة الثقافية والحضارية في تونس لتأكيد أهليتها لصياغة براديغمات كبرى جامعة بين مقتضيات العصر وروح التراث ومستلزمات الهويّة.

كما أنّ التحرير يشكّل محنة للشعب التونسي للتشديد على تملكّه لمبادئ الجمهورية والديمقراطية والدولة المدنيّة ورفضه لأي انتكاسة مباشرة أو ناعمة أيا كان عنوانها.

في خضم هذه الظروف القاسية والصعبة التي تمر بها تونس، لا بدّ من استدرار شعار “ارحل”، جوهر الثورة وعنوان الانتفاضة، لرفعه لا فقط في وجه سماسرة الأراجيف الانتخابية وعلى رأسهم الشعبويون الجدد، وإنما أيضا ضدّ المستثمرين في الأوهام وفي خراب الأوطان وما أكثرهم.
نقلا عن العرب