يتذكّرُ العراقيون تلكَ الليلة السعيدة على قلوبهم ، وكيف كانوا يرشون الماء على سيارات المارّة في شوارع مدننا الحبيبة ، وينثرون الحلوى بسخاء ، بأجواء ملأت ليلها عرساً وطنياً ، وزغاريدَ فرح ٍ ورقصات شعبية (لأول مرّةٍ في العراق دون أمر ٍ من السلطان) ، عبّرتِ الجماهيرُ بصدق عن رفض الإنسان العراقي للحرب وحبّه للسلام .
لكنْ؛ لعنَ الله من بدأها ، ولعن الله من أسس لها ، منذ أن بدأت في أيلول عام 1980 حتى انتهت في 8/8/1988 . فهل هي انتهت فعلاً بوقفها أم بقيت إفرازاتها وبصماتها الدموية الحمراء على قلوب الشعبين العراقي والإيراني ، وهي لم تكن جريرة الشعبين ، ولكن؛ جريرة الحكومتين ، اللتين لن ولم تكن إحداهما معذورة ً من إراقة الدم العراقي والإيراني (المسلم) الذي سُفِكَ على حدود البلدين الجارين المسلمين .. العراق وإيران !!!
يُروى : بعد فشل القوات الإيرانية في محاولة التقدم من الفاو جنوباً إلى بغداد شمالا قرر القادة الإيرانيون من نقل العمليات القتال الرئيسية إلى الشمال عند محافظة السليمانية العراقية، فنقلوا قطعاتهم من الجنوب إلى الشمال وتركز القتال شرق مدينة السليمانية. اعتبر القادة العراقيون تلك المناورات دليل الضعف الإيراني في الجنوب فتم التخطيط لعملية عسكرية يتم فيها تحرير الفاو في 17 نيسان 1988وهو اليوم الذي يصادف أول أيام شهر رمضان ، وقد أطلقت القيادة العراقية على العملية اسم (رمضان مبارك).باشرت القطاعات العراقية تحشّدها بالقرب من الفاو ، فقام الفيلق السابع من الجيش العراقي بالتمركز شمال شرق الفاو فيما انتشرت فرقة نبوخذنصر حرس جمهوري شمال غرب الفاو بالقرب من الحدود العراقية الكويتية ، وفرقة حمورابي كاحتياط في يوم 17 نيسان/ 1988 في الساعة ،05:30 انطلقت الطائرات العراقية مستهدفة الجسور التي أنشأها الإيرانيون بين شبه جزيرة الفاو والأراضي الإيرانية شرقاً لعزل القوة الإيرانية في الفاو وضمان عدم وصول الدعم لها، وكذلك بدأت المدفعية العراقية بضرب مواقع الجيش الإيراني وقوة الاحتياط الإيرانية شرقاً واستخدم العراق غاز الأعصاب ضد الإيرانيين لتشتيت جيش العدو وبعد ساعة أي في 06:30 تحركت الفرقة السابعة وفرقة نبوخذنصر لبدأ تحرير الفاو والسفن الحربية العراقية بدأت بقصف القوات الإيرانية من الجنوب، وانهارت القوة الإيرانية أسرع مما كان في حساب القادة العراقيين حيث تحررت الفاو بعد 35 ساعة قتال واستسلم الجنود الإيرانيون وكانت خسائرهم البشرية كبيرة وغنم العراق آلاف الأطنان من المعدات والأسلحة والتجهيزات وكانت خسائر العراقيين بسيطة.تابع العراقيون هجماتهم، في القطاع الجنوبي وتمكنوا من إلحاق هزيمة جديدة بالقوات الإيرانية شرق البصرة، وذلك باستعادتهم مدينة شلامجة، وخسر الإيرانيون، في عشر ساعات قتال، في يوم واحد، 50 ألف مقاتل إضافة إلى عدد كبير من معدات القتال الرئيسية وخسائر بسيطة بالنسبة للعراقيين وسميت العملية باسم توكلنا على الله 1.ثم قام العراق بتنفيذ هجوم آخر على جزر مجنون وعلى إثرها تمكن من استعادة الجزر وتحريرها وسميت العملية بتوكلنا على الله 2.كما شنت القوات العراقية هجوماً جديداً، في الشمال، على عدة مراحل، شمل كل أنحاء المنطقة الكردية، وتمكن من استعادتها وإجلاء القوات الإيرانية من التلال التي احتلتها ، وسميت العملية باسم محمد رسول الله، على إثر ذلك تم إقصاء العديد من القيادات العسكرية الإيرانية بما فيهم رئيس الأركان.
أعاد الجيش الإيراني تنظيم قواته وشن هجوماً جديداً في 13 حزيران 1988، في منطقة شلامجة، لاستعادتها تألفت القوة الإيرانية من 25 ألف جندي تمكنت بعد ثلاثة أيام من القتال من اختراق 10 كم.
دفعت العراق احتياطياتها من الجنود بقوة من 40 ألف جندي في 11 لواء بهجوم مضاد تمكنت من الأرض، التي استولى عليها الإيرانيون في 19 ساعة قتال، مكبدة إياهم خسائر جسيمة.
في الشمال شن الجيش العراقي هجوماً حول السليمانية وتمكن من استعادة المنطقة بكاملها، في حزيران 1988.
قبل أن ينتهي حزيران 1988، كان العراق قد شن هجومَين آخرَين. الأول، في منطقة مهران، تمكن خلاله أن يستولي على مدينة مهران الإيرانية قبْل أن ينسحب إلى داخل حدوده.
في تموز/1988 هجمت القوات العراقية على المناطق المحيطة بالزبيدات، وأسرت 2500 إيراني ثم تابعت تقدمها إلى داخل الأراضي الإيرانية، بعمق 40 كم واستولت على مدينة دهلران، جنوب مهران، إلا أنها انسحبت منها، بعد عدة أيام.
مع اقتراب نهاية الحرب بدأ الخمول يظهر على أداء الجيشين العراقي والإيراني نتيجة للاستنزاف الطويل للذخيرة الحربية والقوة البشرية للجيشين،فبدأت مرحلة سوداء في تاريخ الحرب وهي قصف المدن بصورة عشوائية عن طريق صواريخ سكود أو أرض-أرض طويلة المدى حيث راح ضحيتها الكثير من المدنيين.
وبدأت القوات الجوية العراقية بضربات إستراتيجية للمدن الإيرانية، واستهدفت الضربات طهران بشكل أساسي مع بداية سنة 1985، فقامت إيران بقصف العاصمة بغداد بصواريخ سكود البعيدة المدى. ورد العراق بالمثل بقصف طهران.
ووصل الأمر إلى حد استهداف العراق الطائرات المدنية ومحطات القطار وتدمير ثلاثة وأربعين مدرسة في عام 1986 فقط أدى لمقتل مئات التلاميذ وبالمثل إيران كحادثة “مدرسة بلاط الشهداء” التي راح ضحيتها الكثير من التلاميذ العراقيين، وقام العراق باستعمال الأسلحة الكيماوية في الحرب ( كما في تأثيراته الكيماوية على حادثة حلبجة) ، وكانت الأمم المتحدة قد أدانت استعمال العراق للأسلحة الكيماوية وذلك سنة 1983.
حيث ساندت المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والدول الغربية العراق ، ولم تتمتع الحكومة الإيرانية بدعم دولي على عكس العراق الذي كان يتمتع بإسناد ذو قاعدة عريضة ، إذ رأى الصليبيون في العالم أن العراق بقيادة صدام حسين أداتهم لضرب الجمهورية الإسلامية الفتية في الشرق الأوسط ، فهم والولايات المتحدة الأمريكية من ورّط صدام حسين بالحرب على إيران الإسلامية ، وقد وعدوه بالمحافظة التاسعة عشر ، ثم غدروا به شرَّ غدر، وصل إلى درجة تعليق عنقهِ بحبل المشنقة ، بعدما استنفدوا أغراضهم به !!!
أدى ذلك الضعف الإيراني إلى القبول والموافقة على هدنة اقترحتها الأمم المتحدة ، والتي وصفها الإمام الخميني “كأس السم” حسب تعبيره في 8 /آب/ 1988، كما أن إيران كانت ترفض أي قرار من مجلس الأمن ما لم يعترف بأن العراق هو البادئ بالاعتداء وإقرار التعويضات اللازمة لإيران والتي قد تصل إلى 200مليار دولار.
وافق البلدان على وقف إطلاق النار في 8/8/1988 لتبدأ بعدها المفاوضات المباشرة بين العراق وإيران في جنيف 25آب – 7 أيلول/ 1988 ، وكان على المتفاوضين بحث قرار مجلس الأمن رقم 598 والذي يتضمن 5 نقاط هي:
1. وقف إطلاق النار
2. الانسحاب إلى الحدود الدولية
3. تبادل الأسرى
4. عقد مفاوضات السلام
5. إعمار البلدين بمساعدة دولية
فشلت الجولة الأولى وتوقفت عند المطلب الأولى (وقف إطلاق النار) بسبب الاختلاف على تطبيقه بحراً حيث أصرت إيران على تفتيش السفن العابرة لمضيق هرمز وهو ما رفضه العراق، الجولة الثانية انعقدت في نيويورك 1 – 5 تشرين الأول 1988 على هامش انعقاد الدورة الثالثة والأربعين للجمعية العمومية للأمم المتحدة حاول خلالها الأمين العام للأمم المتحدة التقريب بين وجهات النظر للطرفين.
في 20 تشرين الأول/1988قدّم العراق طلباً لتبادل الأسرى إلا أن إيران رفضته ، فبادر العراق إلى الإفراج عن الأسرى الإيرانيين المرضى لديه (465 أسيراً)، مما دفع إيران لاتخاذ إجراء مماثل.
وفي 31/ تشرين أول / 1988بدأت جولة جديدة من المفاوضات في جنيف بدعوة من الأمين العام للأمم المتحدة إلا أنه لم تكن بأفضل حالاً من الجولات التي سبقتها ، مما أجبر الأمانة العامة إلى التنقل بين بغداد وطهران لتقريب وجهات النظر بين البلدين، وحسم الموضوع الذي لم يزل معلقا .
ما أحرانا اليوم؛ إلى أن نتذكر تلك الحرب الطاحنة التي استمرت أكثر من ثمان سنوات ، أهدر البلدان خلالها اقتصادَهُ ودمَ أبنائه الشباب المحرومين من زهو الدنيا ، التي أبدلها الحاكمون المتخاصمون بقبور ورفات لم تعرف لها هوية حتى اليوم !
علينا جميعاً ـ عراقيين وإيرانيين ـ أن نستفيد من هذه الذكرى (8/8 من كل عام) كعِبرة أكثر من كونها عَبرة حسب ، بأنَّ نتصالح مع الإنسانية ، ونقول للحاكم : لستَ المسؤول الوحيد عن ظليمتنا ، بل؛ إن لأسيادك وحلفائك الوزر الأكبر عندما غرروا بك ، ثم غدروا ، بعدما غدر الغادرون ، فأصبح تجرّع كأس السُّم أهون على الحاكم من حقن دم الأبرياء .
طوبى ؛ لمن يرفض الحروب .. طوبى لمن يطلب السلام … عاش العراق مطمئناً آمنا … عاشت إيران مطمئنة آمنه … عاش العالم مطمئناً آمنا … عاشت الإنسانية مطمئنة آمنه ، واللهُ فوقَ كيدِ المعتدي !