لم يكن انقلاب 8 شباط 1963 في العراق، محصلة لصراع داخلي على السلطة ، وتضارب ايدولوجيا حزبية فحسب ، بقدر ما كان مؤامرة إقليمية ودولية ، التقت فيها مصالح لدول كانت تقف على طرفي نقيض في سياسة المحاور التي كانت سائدة آنذاك ، ورسمت لها أجندات لدول أدركت ومنذ اليوم الأول ثورة 14 تموز 1958 بأن مصالحها في العراق باتت في خطر ، وعملت بكل جهدها بالتعاون مع البعثيين والقوميين داخليا على تغيير مسار هذه الثورة أو القضاء عليها ، وإقامة نظام سياسي جديد يكون أكثر تقبلا للغرب الرأسمالي، من نظام الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم ذي النزعة التقدمية الاشتراكية ، الذي كان يسعى لإقامة دولة عصرية متقدمة في جميع المجالات ، والنهوض بالمستوى ألمعاشي والخدمي للطبقة المعدمة والكادحة من الشعب العراقي ، والتي تشكل القاعدة الثورية الفاعلة والحيوية لهذه الجمهورية الفتية ، بعيدا عن سياسة الاصطفاف والمحاور الدولية ، والشعارات .. وكان هذا الانقلاب بداية المؤامرة على العراق وشعبه، وما يحدث الآن فيه من فساد وخراب ونكوص على جميع الأصعدة ، ما هو إلا نتاج تراكمي لهذه الحقبة السوداء من تاريخ العراق الحديث..
لكن ما هي الأسباب الحقيقية التي وقفت وراء هذا الانقلاب الأسود الذي وضع العراق على سكة القتل والخوف والخراب ؟
كان للقرارات الوطنية المهمة التي أصدرها الزعيم عبد الكريم قاسم، لتخليص العراق من نير الهيمنة الغربية ، ومواقفه القومية الصادقة اتجاه أشقائه العرب من أهم الأسباب التي ساهمت في إحكام خيوط المؤامرة على جمهوريته الخالدة كما اسماها هو ، ومنها .. قانون استثمار النفط رقم 80 لعام 1961 والذي أثار استياء بريطانيا وشركاتها الاحتكارية وبموجبه أوقفت عمليات تنقيب واستثمار آبار نفط جديدة في العراق ، وقد عبر عن هذا الموقف الرافض للقرار القنصل البريطاني في العراق آنذاك بقوله للزعيم عبد الكريم قاسم .. (إن رفض العراق إلغاء قانون النفط سيضطرنا إلى السعي لتغيير الحكومة هنا ..فسأله عبد الكريم هل هذا تهديد .. فأجابه القنصل ..لا لكنه الواقع ) ، إصداره قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 والذي أعاد بموجبه توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين الفقراء والقضاء على النظام الإقطاعي البغيض ، إخراج العراق من حلف بغداد ، تحرير العملة الوطنية من الارتباط بالإسترليني .. وكذلك موقفه من الثورة الجزائرية وتخصيصه لمليوني دينار عراقي لدعمها ، واتهام جمال عبد الناصر له بتحريض ودعم العميد عبد الكريم النحلاوي والعقيد موفق عصاصة ، اللذين قادا حركة الانفصال في الشطر السوري من الوحدة مع مصر عام 1961 ، دعمه للثورة في الجزائر وإرسال السلاح والمال للثوار الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي .. كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى توجه الأنظار من قبل تلك الدول وسعيها إلى الإطاحة بقاسم وقد تقاسمت الأدوار والسيناريوهات المختلفة والتي اصطبغت بشعارات وتوجهات كثيرة ومتنوعة الأهداف ، تمثلت بحركة عبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري عام 1959 وبعض الضباط القوميين في الموصل وكركوك ، والمحاولة الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم في بغداد من العام نفسه والتي قام بها بعض الأشقياء المأجورين من قبل نظام جمال عبد الناصر ، والصراع الخفي والمعلن على السلطة من قبل الأحزاب والحركات العاملة في الساحة العراقية آنذاك ، فضلا عن المشكلة الكردية التي تم إثارتها من جديد في أيلول عام 1961 بعد هدوء دام لأكثر من عقد من الزمن ، نتيجة فشل وانهيار دولة مهاباد الكردية في إيران ولجوء مصطفى البرزاني الذي كان وزيرا للدفاع فيها إلى الاتحاد السوفيتي ومن ثم عودته بعد الثورة عام 1958.. كما أن لعبة السياسة الدولية ومصالحها كان لها دور في تشجيع أو تأييد الخصوم أو جني ثمار نزاعات الأطراف المتصارعة، حيث رأت الدول الكبرى وإسرائيل أن تصرفات عبد الكريم قاسم لا تخدم استراتيجياتها في المنطقة التي كانت تحاول إحكام الطوق على الإتحاد السوفيتي ومنظومة حلف وارسو بعدد من الدول المؤيدة لسياساتها، فكان قاسم يطمح للتقرب من الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو حبا بالتجربة الاشتراكية وعقد معاهدة دفاع استراتيجي مشترك معه مما قد يسبب وفقا للإستراتيجية الأميركية والعالم الغربي بتقرب الإتحاد السوفيتي مما اصطلح عليه (بالتقرب من المياه الدافئ ) ، أي مياه الخليج العربي .
ويذكر المؤرخ والكاتب حسن العلوي في كتابه ( الأحزاب السياسية في العراق السرية والعلنية ) أسبابا أخرى تعبر عن وجهة نظر الانقلابيين جمعها من محاضر اجتماع مجلس الوزراء العراقي بين عامي (1963-1965)، وهي بالمجمل أسباب واهية ومبررات لمجموعة من القتلة الشوفينيين ، أرادوا الاستحواذ على السلطة في هذا البلد الغني بثرواته وفق رؤى طائفية مقيتة لبست عباءة القومية والوطنية.. وإنهم لم يطبقوا أي شيء مما اعتبروه تقصيرا في حق الشعب العراقي من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم عند تسلمهم للسلطة بعد انقلابهم المشؤوم.. ومن هذه الأسباب كما يذكرها حسن العلوي ..( تحول عبد الكريم قاسم من قائدا للثورة إلى دكتاتور استحوذ مركز صناعة القرار ، وتفرده بالسلطة،وكذلك منعه لتأسيس الأحزاب ، وحضره لبعض الأحزاب الدينية ،عدم إفساحه المجال لانتخاب مجلس نواب جديد للعراق).
بدأ هذا اليوم المشؤوم بانطلاق ثلاث طائرات من نوع ميغ 17 من قاعدة الحبانية كانت أحداها يقودها حردان التكريتي ، بعد اغتيال قائد القوة الجوية آنذاك جلال الاوقاتي ، وقامت هذه الطائرات بقصف وزارة الدفاع التي كان يتواجد فيها الزعيم عبد الكريم قاسم، فيما طوقت بعض المدرعات المكان وهي تحمل صور للزعيم لتضليل حشود الجماهير التي خرجت لمناصرته والدفاع عن منجزات ثورة 14تموز 1958 ، وفي صبيحة التاسع من شباط ألقى الزعيم عبد الكريم قاسم خطابا موجها إلى أبناء القوات المسلحة والشعب العراقي .. ( السلام عليكم أبناء الشعب، أيها الضباط أيها الجنود، أيها الضباط الصف الأشاوس، أيها العمال الغيارى، إن الاستعمار يحاول أن يسخر نفراً من أذنابه للقضاء على جمهوريتنا، لكنه بتصميمنا، وتصميم الشعب المظفر، فأننا نحن جنود وشعب 14 تموز الخالد الذي وجه الضربات الخاطفة إلى العهد المباد رغم الاستعمار، وحرر أمتنا، واسترد كرامتها، فان هذا اليوم المجيد…(كلمات غير مفهومة بسبب القصف)…، لسحق الخونة والغادرين ).
استمرت مقاومة حرس وزارة الدفاع لغاية ظهيرة التاسع من شباط، تمكن الانقلابيون من اعتقال الزعيم عبد الكريم قاسم ، وفاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة العسكرية العليا ، واقتادوهم إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون ، لتجري هناك محاكمة صورية لهما ، برئاسة عبد الغني الراوي ، التي أصدرت حكمها بإعدامهما رميا بالرصاص ، وبعد رفضهما لتعصيب أعينهما ، نفذ عليها الحكم من قبل عبد الغني الراوي ومنعم حميد ،وسقط الزعيم عبد الكريم قاسم شهيدا ، بعد أن رفض قاتليه إعطائه جرعة ماء كي يفطر بها بعد صيام يوم رمضاني كان طويلا وشاقا عليه وعلى فقراء العراق ،ليغادر هذه الحياة بلا زوجة ولا أولاد ، وبلا ثروة أو عقارات وقصور ، بعدما أعطى للعراق كل شيء وبخل عليه العراق بكل شيء حتى القبر.
وقد قام الانقلابيون بعرض صورة الشهيد عبد الكريم قاسم بعد إعدامه في شاشة التلفاز ، لقطع الشك باليقين ، في محاولة منهم لإجهاض أي حركة جماهيرية تهدف إلى مناصرته.
وبذلك طويت صفحة مشرقة من تاريخ العراق الحديث كان لها أن تكون نقطة الشروع في بناء عراق مزدهر ، ينعم فيه جميع العراقيين بغض النظر عن طوائفهم وقومياتهم بالخير والسلام ، بعدما تنفس فقراؤه الصعداء في ظل حكم الزعيم الشهيد
وتحقق جزء من العدالة الإنسانية التي افتقدها العراقيون لقرون طويلة.