23 ديسمبر، 2024 4:55 ص

7,6,5,4,3,2,1 … هامش لمسافر لم يقطع تذكرة

7,6,5,4,3,2,1 … هامش لمسافر لم يقطع تذكرة

حَاولتُ أنْ أعَالج الشُّرود الذّي يَملكُني. أنْ أضْبط ضيَاع خُيوط الفَهم بيْن الصَفحَات. قلّبت الكِتاب بينَ يديّ الباردتين محاولا القبض على المَعاني والأفكار، لكّنها كانت تتمنَّع و تبتعِد دونَ عَوْدة.
ضَلّ هذا التشتّت يُحاصِرني . كنت ازدادُ إصرارا علَى مُحاولة التَّركيز، وتَجمِيع ما بَقي لي من جهد ذهني لترْتيب الأفْكار واتّساق الأحداث. فحَالة الوهن والاكتئاب الذي لازمني منذ فترة بدأت تطول ازدادت وطأتها حدّة، حتى أنّها منعتني من التنبه أنّ خطأ فادحًا في ترتيب الكتاب، هو السّبب الحقيقي وراء هذا الاختلال وتشتت الأحداث.
صعُب عليّ فعلا أن أنْتبه إلى كلّ هذا، لولا أنّ صوتا كالحشرجة نبّهني عن هوَامي وهو يأتي من أوّل العربة الأولى للقطار. كان الصوْت رجاليا* 1 مزيجا من الحشْرجة والبكاء .
التفت إلى المسافر و هو يستجدي الرّاكبين أن يأخذوا من سلّته حبّات من التّمر. وان يرجوا لابنه الرحمة.(أرجوكم تفضلوا… بلي يعز عليكم* 2. ادعوا لابني بالرحمة …حرقة فقده تتقد في قلبي. دهسته كرهبة كريهة * 3 و فرت.)

أحسست بقشعريرة تستبد بي ، كادت أن تقفز دمعة لولا أننّي اجتهدت في قبضها* 4. تناولت حبتي تمر من الوعاء دون أن أتمكن حتى من النظر في سحنته. كان للموت حكايات عندي . وللحزن مكامن عديدة في كتلتي الشعورية وفي خزائني .مثل كلّ البشر ومثل كل الأنفاس الرّتيبة التي تستهلك الهواء في القطار . قلت في نفسي قد يكون الحزن مثل الفرح الأكثر قسمة بين جميع البشر ثم انغمست في شرودي مرّة أخرى.
انتبهت عندما عدت إلى الكتاب ابحث عن الصفحة التي تردّدت على كلماتها أنّ الصفحة السّبعين كانت تجَاور الواحدة والثمانين. قلّبت الأوراق المجاورة فاكتشفت خطأ في التصفيف يمتدّ بين الصفحات العشرين السّباقة للتّسعين. الحقّ أنّني لم امتعض أبدا من هذا الخلل الفني، فقد كان يكفي أن انتبه إلى التعرّج الذي يصيب الحدث وإلى عدم موافقة الكلمات الأخيرة والكلمات الأولى للفقرات الموالية. فقد بقيت على عادتي حسن النّية في مطالعاتي ممَّا جعلني أزداد حيرة في الفهم وتقصّي المعنى. إضافة إلى شكّ في قدرتي على إدراك نوايا الكاتب، والتعرّف على النَسق الذّي اختاره لسَرده. كما أن الاحتفاء النقدي الذي صاحب توزيعه زادتني غشاوة، ارتد فيه العيب لي .كنت فعلا أحبّ كثيرا ميلان كونديرا . لقد عشقت دائما انتقامه من زمنه بكتابة الهشاشة و صلف الحياة .

كانت كلّ كراسي العربة مشغولة بالرّكاب. كان أكثرهم على هيئة الطّلب يتوردون بحبّ الحياة. ويعالجون بالضّحك والاستهزاء والنكتة اللاّذعة كل ما يعترض أحاديثهم وصخبهم المتعالي . بدا لي أنّ ضغط الامتحان ربما زاد انفعالهم و حدّة القهقهة. كان كلّ هذا يبعث جوا من الحياة في القاطرة . يهز الابتسام في وجه المسافر الذي كان يجاورني ويحاول أن ينتبه إلى كل دقائق أحاديثهم* 5.

انغمست مجدّدا في القراءة وقد ترتبت عندي الأحداث وتكشّف لي بعض المعنى وأنا أعيد قراءة الصفحات الملتبسة* 6.استرددت بعض الثقة في اتزان الذهن عندي. حملتني الحكاية أحيانا إلى أقاصي وتوغلت بي في طوارئ الأفكار ونزعتني عن المكان. رغم أن الحسرة توعدتني بالعودة، كلّما تذكرت أني لم أقدر على العودة إلى الكتابة منذ مدة طويلة.

تنبّه الرّاكب الذي يجاورني إلى تنهدي، وإلى صوت صافرة القطار وهي تعلن وصولها إلى المحطة النهائية بساحة برشلونة .
إنها تونس العاصمة….

هوامش

1. كان الرّجل نحيفا .قصير القامة فيه سمرة أهل الجنوب التونسي المحبّبة، وقد نسيت أن أذكر أنه كان يجلس ورائي .

2. “بلي يعز عليكم “في العامية

التونسية تعني أعز ما تملكون

3. “الكرهبة” أو “الكهربة” تعني السّيارة في العامية التونسية.

4. كنت ألبس قميصا أبيض غير مكوي.

5. الحق أنني كنت اختلس النظر إلى سائحة أجنبية مستغرقة في نوم خفيف.

6. اشتريت الكتاب من مكتبة للكتب القديمة وقد غرني الثمن البخس ولم ألحظ الأخطاء في التصفيف رغم انه صادر عن دار باريسية معروفة.

7. الأقصوصة بعنوان “قاطرة”
……..
ما لا يجب أن أقوله:
الحكاية توزيع وتوقيع على المعنى .لعب بين السند والمتن .تقول ان الهامش هو في مدار الأصل.تجريب في القص وبحث في الشكل