18 ديسمبر، 2024 4:56 م

مع حلول عام 2018، صرتُ محرجاً من ذكر عدد سنوات عمري للمتسائل الفضولي، مكتفياً بالإشارة إلى عام ولادتي، فالرقم 56 يشير إلى النصب والاحتيال في زمن سرطان الفساد المستشري الذي لم يفوّت مفصلاً إلا أصابه.. أخجل أن أذكر سنّي عمري لجاري الرفيق السابق والقيادي الحالي في حزب ما، وهو يتبختر جذلاً بدشداشة سوداء ولحية كثّة في طريقه إلى عمله “المهم” محاطاً بشلّة مدججة بالسلاح والبلاهة.. عمري ـ لو ذكرته ـ سيؤكد له بلادتي وانعدام حيلتي، إذ صرت نصابا ومحتالا في زمن “الديمقراطية”، بعد أن كنتُ مشتبها به في عدم الولاء للحزب القائد وللبطل الضرورة، في حين حافظ هو، بذكائه ومرونته، على مكانته وسطوته في الزمنين!!
يبدو أن لديّ مشكلة مع سني العمر، فالعام السابق أحالني إلى ساحة 55 في مدينة الثورة، فبالقرب منها، وتحديداً في بناية التجنيد، ابتدأ مسلسل خيباتي مع تسلّمي لدفتر الخدمة العسكرية بالتزامن مع بدء حرب الطاغية مع إيران.. حرب تحتّمَ عليّ الإفلات منها، فلم أجد غير التقديم لامتحان وزاري خارجي وترك إعدادية صناعة الثورة التي تعني مرحلتها الأخيرة التسويق إلى جبهات القتال بصرف النظر عن الرسوب أو النجاح، في الوقت الذي يمنحني النجاح بالامتحان الخارجي للسادس الأدبي أعواماً إضافية قد تنتهي الحرب فيها.. حرب كنت متيقنا أني سأعود، لو ذهبت إليها، ملفوفاً بالعلم ذي النجمات الثلاث، لأنّ أيّ وحدة عسكرية أحلّ فيها ستضعني في “المتقدم” بصفتي من أصحاب “الكفاءات” بفضل تقارير لجاري الرفيق تتهمني بالشيوعية وتتهم والدي بعدم الولاء لكونه رادوداً حسينياً فضلاً عن إعدام ابن عمتي، عبد الكريم سلمان عبد، بشبهة الانتماء لحزب الدعوة “العميل”.
اجتيازي للامتحان الوزاري وقبولي في المعهد الفني في الحلة، لم يمنحاني التأجيل عن أداء الخدمة العسكرية، كما أملتُ، فلقد أصرّ ضابط تجنيد الثورة الثانية على أن أجلب له وثيقة قطع علاقة من إعدادية الصناعة تزول فيها “أعذاري” تمهيداً للسوق إلى أحد مراكز التدريب العسكري.. أشار عليّ أحدهم أن استمر بالدراسة طالما حصلتُ على قبول معه هوية قانونية تمكنني من اجتياز حقول ألغام السيطرات المنتشرة في كلّ مكان..
بعد سنتي الأولى في المعهد، اكتشفتْ وزارة التعليم العالي أن وزيرها، عبد الرزاق الهاشمي، أخطأ بابتداع فكرة عدم قبول خريجي الدراسة الإعدادية إلا في معاهد وكليات تقع ضمن الرقعة الجغرافية، وسطى ـ جنوبية ـ شمالية ـ فأقيل الرجل، ومُنح للطلبة حقّ تغيير دراستهم إلى كلية أعلى قُبلت فيها درجاتهم، فتحولتُ إلى قسم اللغة العربية بكلية تربية جامعة الموصل، محمّلاً بسنة رسوب ومحروماً من المخصصات الطلابية والسكن الجامعي كحال طلبة آخرين عُرفوا في أوساط جامعة الموصل بـ”طلبة المعاهد”.
حسبتُ، بنهاية العام الدراسي 87/1988، أن مشكلاتي حُلّت، أو في سبيلها إلى الحلّ، فلقد حزتُ البكالوريوس ثالثاً على قسم اللغة العربية، وانتهت الحرب المدمرة، وليس عليّ سوى وضع وثائقي فخوراً أمام كاتب التجنيد، لأساق إلى الخدمة العسكرية، وأتسرّح بعد سنتين أو أُنتدب قبل انقضائهما للتدريس، فالتعيين وتأسيس عائلة.. حسبتُ أن أقصى ما سيفعله التجنيد عقوبة مالية لتخلفي عن تأشير وثائقي الدراسية.. احمّر وجه الكاتب وهو يرى أنّ التأشيرة الأولى في دفتر الخدمة التي تعود إلى العام الدراسي 80/1981 تقول إن المكلف سعد تركي عيدان طالب في إعدادية صناعة الثورة، بينما تشير وثائق أخرى إلى أن المكلف نفسه خريج الدراسة الإعدادية / الفرع الأدبي، ثم خريج جامعة الموصل، فتجمّع على صوته ضباط وكتبة التجنيد كي يشاهدوا فتى نحيلاً أغضبتهم جداً قدرته على الإفلات من مصيرٍ ساقوا إليه أقراناً كانوا أكثر منه حيلةً وذكاءً.
أرسل التجنيد، على وجه السرعة، كتابين أحدهما إلى جامعة الموصل لتفسير كيفية انتقالي من معهد إليها، والآخر لمديرية تربية الرصافة الثانية لمعرفة سبب قبولي لأداء الامتحان الخارجي في وقت كنتُ فيه طالباً مستمراً في إعدادية مهنية.. اخترت أسهل المهمتين فعدت من جامعة الموصل بكتاب رسمي يؤكد قانونية انتقالي، أما تربية الرصافة فقد تسبب التحقيق الذي فُتح فيها عن “الواقعة” بعقوبة شديدة لمدير متوسطة الانتفاضة (الفرزدق لاحقاً) لإهماله الإشارة في وثيقتي إلى المديرية أني زودت بوثيقة سابقاً إلى إعدادية صناعة الثورة.. لم تكتفِ المديرية بذلك، بل أرسلتْ كتاباً إلى وزارة التعليم العالي تطالب فيه بإلغاء شهادة البكالوريوس على مبدأ أن ما بني على باطل يُعدّ لاغياً.. ما حسبتُه فرجاً بعد شدّة استحال إلى ليلِ طويل حالك السواد، فالبكالوريوس التي حزتها بجدارة واستحقاق مهددة بالإلغاء، وسُوّقتُ إلى مركز تدريب مشاة الموصل بصفتي راسباً في صفي سنتين متتاليتين ومتخلفاً عن أداء الخدمة العسكرية بأكثر من ست سنوات.. دخلتُ إلى التجنيد مزهواً فخوراً، وخرجتُ بسبب آخر لحرماني من التعيين، فبالاضافة إلى عدم انتسابي للحزب الأوحد وشبهة الشيوعية وإعدام ابن عمتي، صرُت بلا شرف.. التخلف عن أداء الخدمة العسكرية كان جريمةً مخلة بالشرف..
في عام 1990، في غمرة غزو الكويت، استفسرتُ من وزارة التعليم العالي عما آل إليه التحقيق في صحة شهادة البكالوريوس.. فوجئتُ بأنّ قضيتي مشهورة جداً في الوزارة، مما سهل وصولي إلى رئيسة اللجنة، فقالت إن الشهادة قانونية ولم تُلغَ، إذ لا يمكن إلغاء بكالوريوس نيلت وتأسست على شهادة وزارية لا غبار عليها.. فانتهزتُ فرصة عملي في قلم وحدتي العسكرية لمطالبة التجنيد بتأشير شهادتي، ومستغلاً قرابة ضابط التجنيد بأحد زملائي في الوحدة العسكرية، فتحولتْ خدمتي إلى 24 شهراً، وتسرّحتُ مع أقراني بفضل تحرير الكويت والقوانين التي ساوت الهاربين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية بالآخرين، ولاحقتُ حلمي بالتعيين وإكمال الدراسة.. لكن الاحلام شيء والواقع آخر، فالتعيين جوبه برفض ما كان يُعرف بأمانة سرّ القطر، ولم أجرؤ على التقديم للدراسات العليا لمعرفتي المسبقة بالرفض لأسباب ذكرتها سابقاً أضيف إليها أن النظام الأمني الشمولي اكتشف أن لوالدتي أختاً اختارت التسفير إلى إيران بصحبة زوجها وأطفالها، فرُقنّ سجلها المدني!!
يقول الشاعر الهندي طاغور: كثيرة هي القيود التي تكبّل الانسان بالدنيا، لكن أعجبها هو قيد الأمل.. ولهذا بقيت متمسكاً بأمل التعيين، ومنذ عام 2003 ولغاية نهاية 2008 قدّمتُ عشرات، بل مئات، الطلبات إلى وزارة التربية غير أن اسمي لم يظهر مرّة بين أسماء “المحظوظين”، قدمتُ أوراقي ووثائقي، بين عامي 2013 و2014، إلى مؤسسة الشهداء السياسيين بصفتي أحد ذوي الشهداء السياسيين من الدرجة الرابعة، ولم أحظَ بشيء كذلك. وكما لم أنتمِ لحزب الطاغية، نأيتُ بنفسي عن الأحزاب الأخرى.. علّتي الكبرى ومرضي المستعصي أني لا أحسن التملق ومسح الأكتاف، ولا أرضى لنفسي دفع رشى لنيل ما أراه حقاً.
منذ أعوام، وأنا أعمل في القسم السياسي لجريدة “الصباح”، بدأتها بنظام “القطعة”، بأجور مجزية إلى أن بدأ عام 2017 فقلّت الأجور. المدهش والغريب أن مديرة حسابات الجريدة كانت تزفّ لي، كلّ نهاية شهر، بشرى قيامها بقطع نسبة كبيرة من أجوري، وحين سألتها إن كان التقشف يشملني فقط؟ أجابت بالحرف “تريد تساوي نفسك ويه الملاك”!، حينها أدركتُ أن تساؤلي سخيف وغبي، فالحظوة لا ينالها إلا من يمتلكُ إحدى الحسنيين: قدرة على التملق ومسح أكتاف المسؤولين والنافذين، أو صوتاً عالياً صاخبا يسبّ ويشتم، فينال الأول الحظوة مكافأة على تملقه، والثاني اتقاءً لشرّه.. وما دمتُ لا أملكهما فأقصى ما وصلتُ إليه عقد مؤقت بأجر محدود لن يرتفع برغم كل الإشادة التي يُقابل بها عملي من رؤسائي، وبرغم محاولات رئاسة التحرير وإدارة القسم السياسي.
حسناً فعلتَ يا أبي، إذ متّ قبل أن تشهد ما آلت إليه الأحلام.. أتذكر، يا أبي، الرفاق والوكلاء اليكتبون عنك التقارير ويحصون عليك وعلينا الأنفاس لأنك تنسلّ خلسة ذاهباً إلى موكب “الآتون” كي تقرأ تعزية بذكرى استشهاد الحسين (ع).. أتذكرهم لاحقاً، حين تتسلل فجراً إلى العمل وتؤوب في منتصف الليل وأنت الشيخ الكهل، هرباً من أفواج الجيش الشعبي.. أتذكرهم جيداً يا أبي، لقد أصبحوا وأبناءهم جزءاً من بيت “الديمقراطية” الجديد بعد أن كانوا أحذية الطاغية.. أين هي ثقتك بأن الخيرين هم من سيرثون الأرض في النهاية؟.. أين مصداق عبارتك الأثيرة: بعد الشدِّة، يأتي الفرج؟.. لو أن الله أمد في عمرك، لمتَّ كمداً حين ترى جارنا وقد استبدل الفرقة الحزبية بـ”الموكب”، وبدلة الزيتوني بدشداشة سوداء.. حين تراه وقد صار قيادياً كبيراً مهاباً في حزب ما، بينما تحولتُ، برغم اجتهادي وإخلاصي، من متهم بوطنيته إلى 56.