23 ديسمبر، 2024 1:10 ص

40 عاماً على الحرب العراقية – الإيرانية مصارعة على الطريقة الرومانية

40 عاماً على الحرب العراقية – الإيرانية مصارعة على الطريقة الرومانية

I

في 22 أيلول (سبتمبر) 1980 أعلن العراق رسمياً الحرب على إيران بعد مناوشات حدودية وتحرّشات واستفزازات وإعلانات عن تصدير الثورة الإيرانية التي انتصرت في 11 شباط (فبراير) 1979. وجاء ذلك الإعلان بعد تمزيق الرئيس العراقي صدام حسين اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 من على شاشة التلفزيون، وذلك يوم 17 أيلول (سبتمبر)، أي قبل خمسة أيام من إعلان حالة الحرب. والمقصود باتفاقية 6 آذار (مارس) هي اتفاقية الجزائر التي وقعها صدام حسين نفسه بصفته نائباً للرئيس أحمد حسن البكر مع شاه إيران محمد رضا بهلوي بوساطة جزائرية.
ولقيت الاتفاقية المذكورة نقداً شديداً باعتبارها اتفاقية غير متكافئة ومجحفة وألحقت ضرراً بالمصالح العراقية في الماء واليابسة، وخصوصاً الاعتراف بخط الثالويك في شط العرب الذي هو نهر وطني عراقي، لكن المطالبة باستعادة الحقوق العراقية شيء وشن الحرب شيء آخر.
وكانت الحرب التي استمرت 2906 يوماً (ألفان وتسعمائة وستة أيام) حدثاً من أخطر الأحداث والمنعطفات المأسوية الخطيرة التي مرّت بالمنطقة في تاريخها المعاصر، خصوصاً في حياة الشعبين العراقي والإيراني؛ وهي كارثة شاملة من نمط الكوارث التي سيخصص لها التاريخ على مدى قرون مكاناً مهماً وحيّزاً كبيراً، لاسيّما ما أعقبها من سلسلة كوارث بدءًا بمغامرة غزو الكويت ومروراً بالحصار الدولي وانتهاءً بوقوع العراق تحت الاحتلال العام 2003.
لقد بلغت الحرب العراقية – الإيرانية حدًّا من الشراسة والعنف قلّ نظيره وزادت مدّتها على الحرب العالمية الثانية. وشهدت تصعيداً خطيراً شمل المدنيين، سواءً بحرب الناقلات أم حرب المدن أم استخدام السلاح المحرّم دولياً، وهو الأمر الذي ابتدأه النظام العراقي وواصلته إيران برد فعل أكبر.
ووسعت إيران من عملياته الحربية داخل الأراضي العراقية، بعد تحرير العراق لمدينة الفاو، وصعّدت من لغة التهديد الحربي ولوّحت بإغلاق مضيق هرمز، وكان هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان الإيراني حينها قد قال: أن المعركة الحاسمة ستتم خلال ثلاثة أشهر، بعد أن انتهى عام الحسم الإيراني، فقامت طهران بتصعيد قصفها للمناطق الحدودية وقصف بغداد بصواريخ أرض – أرض؛ وباحتلال المزيد من الأراضي العراقية في هجوم كربلاء (أواخر العام 1986)، والتوجه لاحتلال جزيرة أم الرصاص في شط العرب باستهداف البصرة، وكذلك لاحتلال جزيرة الأسماك في هجوم نصر- 4 (26 حزيران /يونيو/1987)، كما احتلّت نحو 20 كيلومتراً من كردستان.
وبالمقابل فإن العراق بعد ” تحرير الفاو” واستعادتها من الإيرانيين وسّع هو الآخر من قصف المناطق الكردية التي حاولت القوات الإيرانية التسلّل منها، ولاسيّما قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي ليلة 16-17 آذار (مارس) 1988، واستمرّ بحرب الناقلات وهدّد بمواصلتها ما لم تستجب إيران لنداءات السلام، وأقدم على ضرب الفرقاطة الأمريكية ستارك وسفينة تركية.
ورفضت إيران جميع المناشدات لقبول وقف إطلاق النار والموافقة على قرار مجلس الأمن 598 الصادر في تموز (يوليو) 1987، ولكنها اضطرّت إلى الرضوخ بعد عام واحد، إلى أن أعلن الإمام الخميني موافقة إيران على قرار مجلس الأمن 598 وتجرّع كأس السمّ على حد تعبيره، وهكذا توقفت الحرب في 8/8/1988.
وإذا كانت الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل عنفية على حدّ تعبير العالم الاستراتيجي النمساوي كلاوزفيتز، فإن الحرب العراقية- الإيرانية هي تطبيق عملي لهذا القول النظري المأثور، لاسيّما ما عكسته سياسة البلدين، ولهذا صحّ عليهما أيضاً ما قاله السياسي البريطاني المعروف غلادستون من أن الحكومة قادرة على المبادرة في الحرب، لأنها خلال الأزمات الوطنية تتمتّع بتأييد الشعب لمدة ثمانية عشر شهراً على الأقل، فإن هذا الأمر تم تجاوزه من الطرفين، وفقد شرعيته، خصوصاً في محاولة التوغل في أراضي الغير، في حين كان الحسم العسكري غير ممكن.
فالقوات العراقية التي احتلّت أراضي إيرانية اضطرّت إلى التقهقر والتراجع، لأن إيران كانت تدافع عن أراضيها في حين أن القوات العراقية تحارب فوق أراضي أجنبية وبدوافع ملتبسة وغير قانونية، وهو المصير ذاته الذي تعرّضت له القوات الإيرانية الغازية، التي لم تتمكّن من تنفيذ مشروعها الحربي والسياسي. ولعلّها أدركت ذلك منذ معارك شرقي البصرة في تموز (يوليو) 1982 التي راح ضحيتها 30 ألف جندي إيراني، لهذا غيّرت إيران تكتيكاتها، فبدلاً من الموجات البشرية وقذف الألوف في أتون الحرب، أخذت تفكّر بسياسة القضم التدريجي.
إذا اعتبرنا قيام الدولة الصهيونية العام 1948 والكارثة التي حلّت بالشعب العربي الفلسطيني، حدث من أخطر الأحداث التي مرّت بالمنطقة، فإن اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية واستمرارها لنحو 8 سنوات،هي الفصل الأكثر عنفاً وقسوة من الفصول المأسوية التي عرفها تاريخ المنطقة.
لا يستطيع أحد أن يجادل اليوم أن شن الحرب كان صحيحاً أو خدم شعوب المنطقة، كما أن استمرارها هو الآخر لم يكن صحيحاً بغض النظر عن المبررات والدعاوى للفريقين، فقد حلّت كارثة حقيقية بالشعبين وأزهقت الحرب مئات الآلاف من القتلى والجرحى وعشرات الآلاف من الأسرى، ولكن البعض قد يبرر اليوم تلك المواقف بالقول أنه لم يكن العنصر الحاسم في استمرار أو وقف الحرب أو في فرض الحصار واستمراره من إلغائه، لأن الأمر كان بيد القوى الدولية المتنفّذة، التي لم ترغب بوقف الحرب، بل أرادت استنزاف طاقات البلدين وإنهاكهما لكي يتم إشغالهما عن مشكلات التنمية الإنسانية المستدامة بكل حقولها، فضلاً عن إبعادهما عن دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي جوهر مشكلة الشرق الأوسط.
كما أن سياسة فرض الحصار والعقوبات على العراق كانت تستهدف الاحتواء فالإطاحة، وتلك القناعة كانت سائدة في عهد الرئيس كلينتون وأصبحت تدريجياً تعني الاحتواء المزدوج (العراق- إيران)، لكن صدور قانون تحرير العراق من الكونغرس الأمريكي 1998 وصعود مجموعة الصقور، لاسيّما في عهد الرئيس بوش الإبن، بمن فيهم بول ووليفتز وديك تشيني وكونداليزا رايس ودونالد رامسفيلد وآخرين، فضلاً عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية في العام 2001، كانت وراء الإسراع بعملية غزو العراق واحتلاله.
ولكن القوى الدولية كانت تحتاج إلى أصوات عراقية مؤيدة لخططها وهو ما حصل من جانب بعض القوى المعارضة “الرسمية”. وإذا كان صحيحاً أنها لم تكن القوى الحاسمة أو المقررة أو المؤثرة في القرار الدولي، لكن الواجب الأخلاقي والإنساني والوطني كان يقتضي عدم تأييد استمرار الحرب أو تأييد فرض الحصار أو تأييد احتلال العراق، وحتى لو استفادت موضوعياً من البيئة المعادية لنظام الحكم في العراق، لكن ذلك شيء مختلف عن الإنخراط في المشروع الخارجي، الذي أوقع العراق في ورطة حقيقية ما يزال يدفع ثمنها باهظاً منذ أكثر من 17 عاماً.
وقد اختفت الكثير من الأصوات التي كانت تنادي باستمرار الحرب العراقية – الإيرانية بعد وقفها، لكن البعض نقل رحيله من القوى الإقليمية بما فيها إيران إلى القوى الدولية، لاسيّما بعد مغامرة الحكم في العراق بغزو الكويت في العام 1990، وخصوصاً بدعوته لتشديد الحصار الدولي على العراق وإطاحة نظامه، وقد تغيّرت بعض المعادلات السياسية، الأمر الذي دفع بعض القوى الدينية التي كانت ترفض التعاون مع القوى الأخرى، لاسيّما قوى اليسار، إلى القبول بها والجلوس معاً في “لجنة العمل المشترك” 1990 ومن ثم في “مؤتمر بيروت” في العام 1991 والمؤتمر الوطني العراقي في العام 1992.
وأستعيد هنا حواراً مع الصحافي توفيق التميمي المختفي قسرياً (بعيد انطلاقة حركة الاحتجاج التشرينية العام 2019) وكان قد سألني : كتبت كثيراً من الكتب والدراسات والأبحاث، فهل لديك مشروع توثيقي للحرب العراقية – الإيرانية، تقدّمه للأجيال التي لم تتلوّث بسخام ودماء هذه الحرب والمآسي التي عاشها شعبي البلدين؟وباستعادة التاريخ، فثمة دروس عسى أن نستفيد منها؛ فعندما اندلعت الحرب كنت قد وصلت لتوّي إلى دمشق – بيروت، وكان بعضنا يعتقد أن الحرب ستنتهي بعد أسبوع واحد أو ربما ثلاثة أسابيع أو حتى شهر. وكنت قريباً ممن يقول: أنتم لا تعرفون الإيرانيين، فهم حتى لو انسحب صدام حسين من إيران، فهم لن يتركوه لأنهم ” لزكَة جونسون”، إذا تناقشوا حول مسألة فقهية أو لغوية، فقد تدوم ستة أشهر وقد يضطرّون بعدها للعراك، وقد يعودون إليها بعد أعوام، فما بالكم وأن صدام حسين هو الذي بادر بالهجوم عليهم، ولا تنسوا أنهم ما زالوا في ربيع الثورة وفي حالة وطنية من التلاحم. ولعلّ الثورة أية ثورة تخلق مثل هذه الحالة وهو ما شاهدناه في العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية، وأعترف أنه لم يستطع أحد منا التكهن بأن تلك الحرب ستطول ثمانية أعوام بالكمال والتمام.
وخلال تلك الأعوام المريرة كتبت دراسات وأبحاث عديدة بُعيد الحرب مباشرة ونشرتها في بعض الصحف والمجلات العربية، ثم أصدرت كرّاساً بعنوان ” النزاع العراقي- الإيراني- ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي” وصدر في بيروت أوائل العام 1981، وقامت المخابرات العراقية بجمعه من المكتبات على الرغم من دفاعه عن حقوق العراق التاريخية في المياه واليابسة ورفضه المشروع والبديل الإيراني، ولكنه من جهة أخرى أدان الحرب التي شنّها صدام حسين واعتبرها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية، الأمر الذي يستحق عليه المساءلة؛ وألقيت محاضرات عديدة عن الحرب وآفاقها، لاسيّما بعد أن انتقلت إلى الأراضي العراقية، والمخاطر والتحدّيات المحتملة خارجياً وداخلياً.
وكتبت عدداً من الدراسات، بما فيها إنجاز ملفّات خاصة عن الجانب القانوني في النزاع، وشط العرب كنهر وطني عراقي واستخدام القوة في العلاقات الدولية وحرب المدن وحرب الناقلات، وعن أوضاع الأسرى العراقيين والإيرانيين في ضوء الشريعة والقانون الدولي، وعن سيناريوهات الحرب، والنفط والحرب، والقضية الكردية والحرب، والصراع العربي- الإسرائيلي والحرب، وبانوراما الحرب، والحرب والحسم العسكري وغيرها…الخ وآمل أن أتفرّغ لجمع تلك المواد وتأطيرها وتعزيزها لتصدر كموسوعة خاصة بالحرب العراقية – الإيرانية، بعضها كُتب خلالها وبعضها بعد مرور سنوات عليها، لاسيّما تقييماتها، أو أن يتفرّغ أحد الباحثين للقيام بهذه المهمة، خصوصاً لتوثيق مواقف القوى والشخصيات العراقية.
وسعيت بكل ما أستطيع في المحافل الدولية والعربية للترويج لفكرة إن هذه الحرب عبثية، وأن الجهود ينبغي أن تنصرف لوقفها دون تحقيق مكاسب منها، وإنها مدانة عندما بدأها الحكم في العراق في 22 أيلول (سبتمبر) العام 1980 وعندما أصرّت إيران على مواصلتها منذ انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية، بعد معركة المحمّرة (خورمشهر) العام 1982، وهي حرب تدميرية لطاقات الشعبين، وأن الحل المناسب هو الجلوس إلى طاولة مفاوضات طبقاً لقواعد القانون الدولي، دون نسيان حقوق العراق التاريخية والتي تم التنازل عنها في اتفاقيات سابقة، لاسيما اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975، لكن الأمر يحتاج إلى وسائل سلمية لتسوية الخلافات.
وكان رأيي وما يزال أنه كلّما كان العراق ضعيفاً، كلّما تمدّدت إيران داخله، والعكس صحيح. ولعل ما يحتاجه الشعبان العراقي والإيراني هو علاقات متوازنة ومتكافئة وإلى صداقة وحسن جوار ومشترك إنساني على أساس حق تقرير المصير واحترام الخصوصية والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
II

مشهد قانوني – سياسي: الصديق الإيراني المحتمل
ظلّ البعض ينظر إلى إيران باعتبارها عدوّاً تاريخياً دائماً ومستمراً وأنه لن يتغيّر، في حين هناك من يعتبرها عمقاً استراتيجياً له لاعتبارات مذهبية أو آيديولوجية، فكيف السبيل لإحداث تغيير في العلاقات العراقية – الإيرانية؟ وهل يتم ذلك بالحرب وبالوسائل العسكرية، أم بالعمل والتعاون على أساس المصالح؟ ولعلّ الكثير من المشتركات التاريخية والدينية تجمع إيران بالعراق، والأهم من ذلك هو المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، التي تحتاج إلى توفير بيئة سلمية ومدنية لكي تزدهر وتتعمّق، خارج دائرة العداء، وذلك بتغيير موقعها إلى صديق محتمل على أساس التكافؤ والمساواة.
وبقدر ما نستحضر التاريخ للفهم والدلالة والعبرة، فإننا لا نعيده ولا نعيش فيه أو نغرق في فصوله، لأننا سنكون أسرى للتاريخ أكثر من التفكّر بالحاضر ورؤية استشرافية للمستقبل، ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون عراق قوي بمواطنته ودعم شعبه وتوفير مستلزمات حضوره في الإقليم.
وبخصوص الموقف من الحرب فقد اختلفت معظم قوى المعارضة العراقية الرسمية في رؤيتها، فبعضها لاسيّما القوى الدينية الشيعية كانت تدعو إلى “استمرار الحرب حتى النصر” وهو ما ينسجم مع المشروع الإيراني. أما القوى الكردية فقد كانت أقرب إلى الرؤية الإيرانية آنذاك، في حين أن بعض المجموعات المحسوبة على سوريا كانت تدعو إلى “عدم توسيع رقعة الحرب”. أما الحزب الشيوعي وبعد جهد جهيد وصراع داخلي حاد وانشقاقات ، فقد قدّم شعار وقف الحرب والإطاحة بالدكتاتورية، بعد أن كان الشعار بالمقلوب.
كان يخيّل لي أن الحرب العراقية- الإيرانية بفعل استمرارها ووحشيتها واحتمالات إتّساع دائرتها كأنها مصارعة على الطريقة الرومانية القديمة، التي لا تنتهي الاّ بمقتل أحد الطرفين المتصارعين وإعياء وإنهاك الطرف الآخر حد الموت أحياناً، وهو ما كتبته في جريدة الحقيقة اللبنانية قبل انتهاء الحرب بعام واحد (تموز/يوليو/1987 وقبيل صدور قرار مجلس الأمن 598).
وفي وقت سابق كنت قد أجبت على سؤال آخر بخصوص كتابي الموسوم ” النزاع العراقي- الإيراني” وملابساته ، لاسيّما موقف السلطات الحاكمة من صدوره فأشرت إلى أنه:
صدر في بيروت في النصف الأول من العام 1981 وكتب مقدمة له الرفيق باقر ابراهيم (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في حينها) والذي أشار فيه إلى : أن الكثير من الباحثين بحثوا في موضوع الخلاف الحدودي بين العراق وإيران، وما جرّه ذلك من نزاعات طيلة قرون عديدة، ويتناول الموضوع الذي يضعه الرفيق عبد الحسين شعبان بين أيدي القرّاء، هذا النزاع، في ضوء قواعد القانون الدولي، وذلك جانب وجدته هاماً وضرورياً لكل المناضلين التقدميين وكل مواطن أن يلمّ به… ويعرّي الدكتور شعبان في بحثه بصورة ملموسة وحيوية حيل النظام القانونية التي يلتجئ إليها باستخدام التضليل والخداع… وينطلق في تحليله للنزاع من منطلقات المنهج ” الماركسي”- اللينيني في البحث، وهو إلى جانب التزامه بتلك المنطلقات يجتهد في بحثه ويستنتج الحلول بطريقة حيوية” .
استند الكتاب إلى عدد من المرتكزات الأساسية هي:
المرتكز الأول يقوم على أن النزاع العراقي- الإيراني هو نزاع سياسي، ولكن جانباً قانونياً مهماً فيه، الأمر الذي اقتضى متابعته تاريخياً بشكل مكثف، بعيداً عن الاعتبارات العنصرية أو المذهبية، التي أريد الترويج لها عشية وبُعيد إعلان الحرب من جانب العراق في 22 أيلول (سبتمبر) 1980.
المرتكز الثاني استند إلى معاهدة فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 في بحث الاتفاقيات العراقية- الإيرانية، ولاسيّما اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 المذلّة والمجحفة، والتي وقّعها صدام حسين مع شاه إيران في الجزائر وبوساطة الرئيس هواري بومدين وكان لوزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة دوراً مهماً فيها، وقد سبق للكاتب أن ناقش هذه الاتفاقية في حينها في إطار رسالة كتبها إلى المكتب السياسي، مورداً جوانب الضعف فيها، لا سيّما هدر حقوق العراق في الماء واليابسة، وخصوصاً فيما يتعلق بشط العرب وخط الثالويك، الذي هو أعمق نقطة في وسط مجرى النهر وحتى البحر عند انخفاض منسوب المياه، وهو أمرٌ خطير وفق علماء الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) والطوبوغرافيا (علم التضاريس)، إذ سيعني ذلك انتقال النهر كلّياً إلى إيران بعد نحو 100 عام، حيث سيتراكم الطمى والغرين وعوامل التعرية في الضفة العراقية، ناهيكم عن كون النهر أصلاً “نهر وطني عراقي”، وليس نهراً دولياً، لكي يتم اعتبار الثالويك (الذي هو خط وهمي) الخط الفاصل للحدود.
ومن الطريف الإشارة إلى أنني حضرت احتفالاً دولياً في الجزائر في العام 2010 بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور الإعلان العالمي لتصفية الكولونيالية (الاستعمار) الذي صدر عن الأمم المتحدة في 14 كانون الأول (ديسمبر) العام 1960، وقدّمت بحثاً في المؤتمر الاحتفالي، بعنوان ” ديناميكية حق تقرير المصير والقانون الدولي”، وذلك في القاعة نفسها التي جمعت صدام حسين بشاه إيران محمد رضا بهلوي، في مؤتمر قمة الدول المصدّرة للنفط، وصوّرت حينها عدسات التلفزيون والكاميرات عناق “الأخوة الأعداء” في رواية الأخوة كارامازوف للروائي الروسي دوستويفسكي في قاعة “قصر الأمم”، حيث تم التوصّل إلى توقيع اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 بين العراق وإيران والتي أدّت إلى إنهاء الحركة الكردية المسلّحة مقابل تنازلات قدّمها العراق إلى إيران، لا سيّما في شط العرب بقبول خط الثالويك وتنازله عن أراضي عراقية في منطقة نوكان وناوزنك في كردستان العراق.
لكنّ تلك الاتفاقية بذاتها أصبحت عقدة جديدة من العقد التاريخية التي أضيفت إلى النزاع العراقي- الإيراني، وهي ما تزال محطّ أخذ ورد ونقاش وجدل، وحروب ونزاعات، نحو أربعة عقود من الزمان، ولعلّ فصلها الأكثر مأسوية كان هو الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، التي تعتبر من تداعياتها عملية غزو الكويت العام 1990 وصعود موجة الإرهاب، وفيما بعد احتلال العراق 2003.
أما المرتكز الثالث، فإنه على الرغم من أن الحرب وقعت دون مراعاة حتى بنود هذه الاتفاقية المجحفة، أو قواعد القانون الدولي، إلاّ أنني لم أنسَ حقوق العراق حتى وإن كان الجيش العراقي قد اجتاح الأراضي الإيرانية، فإدانة الحرب شيء والإشارة إلى الحل السلمي واللجوء إلى المفاوضات لاستعادة حقوق العراق، شيء آخر، كاشفاً ومناقشاً الدعاوى الإيرانية التي تردّدت حينها، فيما يتعلق برفض وقف الحرب واشتراط التفاوض إلاّ بإزاحة النظام العراقي، أو إقامة نظام إسلامي، وهو ما صرّح به سفير إيران في موسكو السيد موكري، ومطالبة إيران بتعويضات عن خسائر الحرب، قالت حينها أنها تبلغ 150 مليار دولار، واستفتاء أكراد العراق بالانضمام إلى إيران أو استقلالهم عن العراق، وكذلك وضع مدينة البصرة تحت ” السيادة الإيرانية” بصورة مؤقتة، واعتبرتُ تلك المزاعم والدعاوى استفزازية وغير قانونية وغير شرعيّة.
وفي المرتكز الرابع دعوت إلى تجريم المعتدي في ضوء القانون الدولي، لا سيّما للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة والترحيل والاغتيال والجرائم ضد الجنس البشري وغيرها، إضافة إلى جرائم الحرب، وذلك طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، (بروتوكولا جنيف الأول والثاني الصادران عن المؤتمر الدبلوماسي الدولي 1974-1977) واستناداً إلى ذلك أفترض أن البدء بشن الحرب وارتكاب عدد من الانتهاكات السافرة والصارخة، سواءً ضد الإنسانية أم جرائم الإبادة أم ضد الجنس البشري أم جرائم الحرب، يستحق الإحالة إلى القضاء في ضوء القانون الدولي طبقاً لما يزيد عن 15 وثيقة دولية وبموجب تهم أربعة أساسية.
وكانت تلك أول دعوة مسبّبة لإحالة صدام حسين إلى القضاء، ولكن من موقع قانوني وحقوقي، وتردّد حينها كثيرون من التعاطي معها، أما لاعتبارها “غير واقعية” أو “غير ممكنة”، أو هي أقرب إلى يوتوبيا أو حلم راود ذهن الباحث، ناهيكم عن أن منطقها القانوني كان من الصعب استيعابه، خصوصاً وأنه تجاوز بعض الأطروحات السياسية والشعارات العامة السائدة، لكن الباحث وضع حلم نورمبرغ عراقية أمامه وظلّ يدعو إليه.
وأكد الباحث في المرتكز الخامس على وقف القتال فوراً وسحب القوات العراقية من الأراضي التي احتلتها ووضع حدّ للكارثة بالجلوس إلى طاولة مفاوضات لإيجاد حل للمشاكل القائمة، وحدّد خريطة طريق وطنية تقوم على:
إلغاء معاهدة 6 آذار (مارس) لعام 1975 باتفاق رضائي بين الطرفين.
أو تعديل بعض نصوص المعاهدة المذكورة بما يحقق مصالح الشعبين الجارين.
أو إيقاف العمل بالمعاهدة المذكورة واستبدالها بمعاهدة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار مبادئ القانون الدولي، بحيث لا تؤدي إلى أي إجحاف، وذلك باتباع الطريق الدبلوماسي على أساس اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات.
وإذا لم تتم الاستجابة إلى تلك الخيارات، فيمكن اللجوء إلى المساعي الحميدة لطرف ثالث، سواءً كان ذلك دولة أم منظمة دولية، لخدمة الغرض الأول، واقترح الباحث دوراً للأمم المتحدة ودول عدم الانحياز للقيام بهذه المهمة، لا سيّما بعد أن تنسحب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، أما الطريق الثالث فقد اقترح الباحث اللجوء إلى التحكيم والقضاء الدولي وهو ما نصّت عليه اتفاقية 6 آذار (مارس) ذاتها، كما نصّت على المساعي الحميدة.
وكان يمكن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي استشاري بهذا الخصوص، بما يدّعم وجهات النظر المتعارضة أو يفسّر بنود اتفاقية 6 آذار (مارس) لعام 1975، وبكل الأحوال استبعاد خيار الحرب والحل العسكري، مؤكداً أن المساعي ينبغي أن تنصب الآن وبعد اندلاع الحرب واستمرارها إلى وقف القتال فوراً والبحث عن حلول سلمية تفاوضية وقانونية في الآن ذاته.
أما المرتكز السادس- فهو استحقاق وطني عراقي يتعلق بحق تقرير المصير ورفض الدعاوى التي تريد تغيير النظام لمصلحتها واعتبار تلك المهمة خاصة بالحركة الوطنية وقواها، وهي مهمة حصرية بها وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إنهاء الحرب. ويمكن مراجعة نصوص الكتاب، لاسيّما الاستنتاجات الأساسية التي وردت في فقرة تجريم المعتدي في ضوء القانون الدولي وما بعدها، بما فيها الخاتمة (النزاع العراقي- الإيراني، منشورات الطريق الجديد، بيروت، 1981، ص 66 وما بعدها، كذلك ص 72 وما بعدها).
وحين تغيّرت مواقع القوات المتحاربة بالطبع فإن مواقف الباحث هي الأخرى تغيّرت، ولاسيّما بتغيّر طبيعة الحرب، وخصوصاً عندما انسحبت القوات العراقية من الأراضي الإيرانية بعد هزيمة المحمّرة (خرمشهر) 1982، لكن الحرب استمرّت، بل وانتقلت إلى الأراضي العراقية، وخصوصاً في العام 1983 من خلال موجات بشرية للاجتياح وقضم للأراضي واحتلال مواقع ستراتيجية عراقية، حيث انتقل المشروع الحربي والسياسي الإيراني من مرحلة التلويح ليدخل مرحلة التطبيق.
فبعد أن كانت الحرب عدوانية من جانب النظام العراقي، تغيّرت إلى عدوانية من جانب إيران، التي كانت ترفض وقفها بعد أن بدأها النظام العراقي بحسابات خاطئة، ولعدم إدراكه أن إيران خرجت لتوّها من ثورة وهي تعيش حالة ثورية حيوية، الأمر الذي دفعها للوحدة الوطنية بوجه خطر خارجي، في حين أن نظام بغداد دخل الحرب معزولاً وبلا حلفاء داخليين، وعلى نفس القدر تطلّب الاستمرار في إدانة الحرب باعتبارها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية ، والدعوة إلى وقفها فوراً والجلوس إلى طاولة مفاوضات لإيجاد حل سلمي ينسجم مع مصالح الشعبين الجارين.
بعد صدور الكتاب في بيروت تم توزيعه على المكتبات، وأرسل عدداً من النسخ إلى اليمن (منظمة الحزب الشيوعي) وعدداً آخر إلى سوريا (منظمة الحزب أيضاً) وبعد نحو شهر احتاج الباحث إلى نسخ أخرى، فذهب إلى بيروت وطلبها من جهة النشر التي كان يمثّلها فخري كريم، فأخبره أنه لم يتبقَّ منها سوى بضعة كتب، ولكنها موجودة في المكتبات، وحاول الحصول على نسخ من عدد من المكتبات التي تم التوزيع عليها، وإذا به يتفاجأ بأن الكتاب أصبح نافذاً.
في البداية اعتقدتُ أن هذا الموضوع الحسّاس قد تم تناوله لأول مرّة من جهة مثقف وأكاديمي يساري ولذلك كان الطلب عليه كبيراً، ولكنني اكتشفت أن ذلك اعتقاداً خاطئاً ، خصوصاً حين عرفت أن الأجهزة العراقية وبواسطة السفارة العراقية في بيروت قامت بشراء جميع النسخ، وما بقي لديّ من نسخ إنما جمعت بعضها من أصدقاء كنتُ قد أهديتها لهم في وقت سابق، وخطر ببالي عنوان صحفي جميل: المخابرات العراقية تشتري كتاب عبد الحسين شعبان.
III

مشهد شخصي في خضم المشهد العام: الوالدة ” نجاة حمود شعبان”
لكي استكمل حكاية كتابي ” النزاع العراقي – الإيراني” الذي جلب أذى كبيراً لعائلتي ، ولا أرغب هنا في الحديث عن تفاصيل تتعلق بالدور الذي قمت به، لكي لا تفسر وكأنها ادعاءات، إذْ كثيراً ما نقرأ عن بطولات وتحدّيات كبرى، لا يدّعيها الباحث، ولا يريد بأي شكل من الأشكال تناولها، خصوصاً وأن بعضهم، ولا سيّما بعد الاحتلال العام 2003، سطّر ملاحم لا حدود لها، وإذا كان ثمة ما يُذكر فرصيده لا يعود لي شخصياً، بل للعائلة، وخصوصاً لوالدتي نجاة شعبان ووالدي عزيز شعبان، وأعتزّ بأنني ابناً لهذه العائلة المتحابّة، المتسامحة، الصبورة، المعطاءة ، المضحيّة.
وجزء من هذا الحديث هو وفاء لرحيل والدتي ولروحها الطاهرة وعذاباتها التي لا حدود لها طيلة أكثر من 20 عاماً مثل الكثير من الأمّهات العراقيات المنكوبات، وهو وفاء لروح والدي الراحل وعينه على باب الدار وأذنه على الإذاعة ووجهه إلى التلفزيون على أن يسمع خبراً عن ” الغائب” غير ” المرخّص” بذكر اسمه إلاّ إيماءً، جئت على ذكر ذلك في حواراتي مع التميمي المنشورة في كتاب ” المثقف في وعيه الشقي- حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان ” إعداد توفيق التميمي، دار بيسان، بيروت، 2014.
لقد صدر الكتاب في العام 1981 وباسمي الصريح، ولو راجعت الأسماء التي كانت تكتب في تلك الفترة ستجد أنها قليلة، بل وقليلة جداً، خصوصاً وأن الأسماء المستعارة مثل أبو فلان وأبو فلتان كانت ظاهرة شائعة وقد تكون لها مبرراتها، لا سيّما ما تثيره من احتمالات ملاحقات حكومية. وقد سبق نشري للكتاب أن كتبت مقالتين عن الحرب العراقية- الإيرانية في صحيفة تشرين السورية (شهر تشرين الثاني/نوفمبر/1980) أي بعد شهرين من وقوع الحرب، بالتوجّه ذاته، وأثارت حينها ردود فعل متنوّعة، لاسيّما معالجتها المسألة من زاوية وطنية وحقوقية.
بعد بضعة أسابيع وربما أشهر وكنت قد عدت من بيروت إلى الشام التي كانت مسؤوليتي فيها، وإذا بي أجد ورقة تحت الباب تقول إن الرفاق في بيروت اتصلوا وطلبوا عودتك إلى بيروت فوراً، لأن والدتك وصلت إلى هناك، وقد توجست خيفة، وشعرتُ أن أمراً جللاً قد حدث وكنت أعرف مثل هذه الأساليب التي اتبعت مع بعض المعارضين على نحو محدود. وذهبت إلى مقر اللجنة المركزية (قرب السفارة السوفيتيية) وهو البيت الذي استأجرته باسمي للحزب، وأبلغت الرفاق في المكتب بالأمر، خصوصاً وأن الوقت أصبح متأخراً نسبياً. وفي اليوم الثاني تحرّكت بوقت مبكّر بسيارة من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى بيروت، ووصلتها قبل الظهر، وبعد أن توجهت إلى مكتب الحزب في بيروت علمت أن الوالدة في مكان قريب من “جمهورية الفاكهاني” التي كانت ملاذنا، وذهب معي للقاء الرفيقين فخري كريم وعبد الرزاق الصافي، وعندما قابلتها بكت بكاءً مرًّا وقد تحفّظت عن الكلام وعندما تحدثت كانت متردّدة، إلى أن طلبت منها ذلك، وقد قدمت روايتها التي عدت ودونتها ودققت بعضها بعد 20 عاماً.
قالت بالنص: لقد اعتقلونا جميعاً بعد أن سكنوا في البيت معنا لمدة خمسة أيام، وكانوا يأكلون ويشربون معنا وبجيوبهم مفاتيح الغرف، لاسيّما غرفتك في الطابق العلوي، وصادروا جميع حاجياتك الشخصية، ولاسيّما المكتبة والشهادات والرسائل والأوراق وكل ما يعود لك بالكامل، وبعدها جاءت السيارات وحملتنا إلى المخابرات، (لا تدري أين؟ ولكنها تقول إلى الأمن) وكان والدك مريضاً ومتعباً، حتى أنهم حملوه مع فراشه، وقد استدعاني شخص لم أكن أعرف من هو، لكنهم قالوا أنه المسؤول، وذلك بعد مقابلات مع آخرين، الذين أخبروني أن قضيتكم يحلّها ” المدير الكبير”، وهناك جرى الحوار بين والدتي الحاجة نجاة شعبان وبين المسؤول الكبير.
قالت لم أكن أعرف من هو إلاّ بعد مضي سنوات، وقد شاهدته على التلفزيون خلال محاكمته فصرخت: إنه هذا ولم يكن سوى برزان التكريتي.
تقول الوالدة:
قال لي: تقبلين ” إبنج” (ابنك) مع العجم (الفرس المجوس)؟
قلت له إننا عرب أقحاح، وهل سمعت أن أحداً في حضرة الإمام علي (رض) من العجم؟ ولدينا فرامين سلطانية كُتبت منذ نحو 500 سنة” ونحن سدنة الروضة الحيدرية -“السرّخدمة”، أي رؤساء الخدم، ونحن نتشرّف بذلك.
قال: نعم نحن نعرف أنكم عرب، ولو كنتم عجم لرميناكم خارج الحدود وتخلّصنا منكم،
قلت له: لا أفهم ذلك كيف يكون إبني عجمياً وهو عربي أصيل من نسل قحطان ومن “حِمْيَر” ولدينا شجرة تثبت ذلك. قال: أتقرئين؟
قلت له : نعم، فأخرج كتاباً “وردي اللون” عليه اسمك وأطلعني عليه، قائلاً: هذا ما كتبه ابنك وهو يؤيد العجم ضد بلاده. فخفت وسكتت!
ثم واصلت حديثها معنا:
قال لي: أتعلمين أن هذا الكتاب موجود على طاولة السيد الرئيس منذ حوالي شهر؟
فسألناها ماذا قالت له؟
فقالت: سكتُ ولم أنبزّ ببنت شفة.
قال: عليك الذهاب إلى بيروت، نحن لا نريد شيئاً منه. نحن نعطيه الأمان إذا أراد أن يعود إلى وظيفته في الجامعة فأهلاً وسهلاً، وإذا رغب في منصب سياسي فنحن نعده بذلك، وإذا لم يرغب في العودة فعليه أن يختار إحدى سفاراتنا لنعيّنه فيها، وإذا لم يفعل ذلك، ليعلم أن مصيركم جميعاً ” الإعدام”.
قالت: قلت له، نحن لا ذنب لنا، إن ولدي كبير ولا يسمع إلينا أو يأخذ بنصائحنا، وأنا إمرأة كبيرة ولا أستطيع السفر والمجازفة في هذه الأوضاع بالذات، ولديّ أحفاد أنا مسؤولة عنهم، فنظر إليّ بشرز وقال عليك التنفيذ و”إلاّ” وكرّرها ثلاث مرّات و”إلاّ”، قلت له نحن نتبرأ منه، وأنتم حكومة فإذا أخطأ فيمكن معاقبته.
قال: إذا لم يفعل ما طلبناه منه، فيمكن أن يكتب لنا ورقة يقول فيها أنه يتعهّد بعدم النشاط والكتابة ضد الحكومة، و”الاّ ” فإن مصيركم كما قلتُ لكِ.. ثم قال إن مصيركم بيده وهو من يستطيع إنقاذكم والحكومة رحيمة معكم.
قالت: بكيّتُ وتوسّلتُ، وحينها انفجرتْ بالبكاء بصوت عالٍ، لكنه دعا أحد الذين دخلوا علينا، كما تقول: وقال له اعمل لها جواز سفر إنْ لم يكن لديها جواز سفر، وأجلب صوراً لها، وسألني هل لديك جواز سفر؟ قلت له نعم فقال أين هو؟ قلت له في البيت.
أعادوني إلى مكاني حيث يتكدّس الأطفال وصراخهم وكذلك والدك ” الحاج عزيز شعبان” وأختك سميرة وزوجها فاضل الريّس وزوجة حيدر شقيقك. بعد ساعتين أو ثلاثة أخذوني إلى البيت وأحضرت لهم جواز سفري وبعد يومين سافرت ووصلت إلى بيروت. وقد زودّوني بعناوين لا أعرف لمن تعود وإن قرأت الأسماء، وقد وصلت إلى بيروت وبعد توجهي من المطار بالتاكسي إلى العنوان أوقفنا حاجز وبعد تفتيش أوراقي وجواز سفري، قالوا لي تفضلي انزلي، ونزلت وأخذوني إلى مكان فيه رشاشات ومسدسات ومسلحين، وقد سألوني عدّة أسئلة من أعطاك العناوين ولمن تريدين الوصول، كنت خائفة هل أخبرهم أم لا؟ لا أدري ولكنني قلت لهم جئت إلى بيروت للعلاج وأعطوني هذه الأسماء في بغداد لمساعدتي للوصول إلى الطبيب.
وبعد نحو خمس ساعات جاءت سيارة وأبلغوني بالصعود إلى الأعلى حيث كنت تحت الأرض، وذهبت مع سائق ووصلت إلى مكان آخر فيه مسلحين أيضاً، ولكنني خفتُ أكثر وبكيت بصمت. سألني الحرّاس والذين استقبلوني فيما بعد لمن تريدين قلت لهم الأسماء التي لديّ، واتضح أنها أسماء تيسير قبعة وبسّام أبو شريف (من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)(هذا ما عرفناه بعد اطلاعنا على الأوراق التي لديها).
وحسبما يبدو فقد كانت هناك أشبه بعملية تبادل مع الكتائب، فتم تسليم الوالدة إلى الجبهة الشعبية، ويبدو أن الجبهة الشعبية سلّمت مخطوفاً إلى الكتائب. وكانت المخابرات العراقية بعد مصادرة حاجياتي الشخصية، بما فيها صوري، قد وجدوا فيها ما يوصلهم لي في بيروت فأعطوها عناوين قبعة وأبو شريف وآخرين لا أتذكرهم حالياً، وكذلك عنوان مكتب بيروت وتلفون الذي كان مسؤولاً فيه فخري كريم.
استمعنا إلى هذه القصة وكانت الوالدة تتوقف بين الحين والآخرلتقول” إنهم ينوون قتلك، عليك عدم العودة حتى لو أعدمنا”. اتفقنا على تنظيم موعد لزيارة طبيب لها، وأخذت معها بعض الأدوية ولا أتذكر إن كان الطبيب حسّان عاكف حمودي أو غيره ، (في مستشفى فلسطيني يعود إلى فتح) وقد عملنا لها حجزاً وهمياً في فندق وفاتورة حساب وهمية (مدفوعة لثلاثة أيام) وقد مكثت معها اليومين التاليين في بيت خاص مع آخرين، ثم اصطحبها أحد الرفاق إلى المطار (لا أتذكّره) لتوديعها، ولم أظهر معها في أي مكان باستثناء زيارة لمكان قريب في العمارة ذاتها أو شقة قريبة لا أتذكّر، بدعوة من عصام الخفاجي.
اتفقنا معها على ما يلي: أن تبلغ الأجهزة أنني غير موجود في بيروت، بل أنها سمعت أنني في إسبانيا، أعيش هناك، وأنها ظلّت خلال الأيام الثلاثة في الفندق، وأنها راجعت طبيباً لمساعدتها وأعطاها أدوية وضعتها في حقيبتها اليدوية، وأنها مستعدّة وكذلك الوالد إن طلبوا منه التبرؤ مني علناً في التلفزيون أو في الجريدة ، وحتى لو قتلتني الحكومة فهي سوف لا تحزن عليّ إذا كان الأمر ضد الوطن.
وتستدرك الوالدة الحاجة نجاة شعبان لاحقاً: أن الذي قابلني بعد عودتي هو نفسه الذي التقاني عند سفري والمقصود هنا ” برزان التكريتي” وعندما وصلت إلى الجملة الأخيرة، (أي حتى لو قتلتني الحكومة …) قال: إي نحن نقتل وراح تشوفين، ولكنه غيّر الكلام وقال: هل صحيح أننا نقتل، فقلت له أنتم حكومة ولكم الحق في معاقبة المخالفين أو الناس ضد القانون، فضحك وقال نحن نعطيكم فرصة أخرى، لكنكم تذكّروا: أنتم تحت مراقبتنا وأي شيء يصلكم من هذا “الابن الضال” أوصلوه لنا في الحال، وإذا أرسل أحداً يتصل بكم أبلغونا فوراً، وأعطانا أرقام تلفونات، وقلت له حاضرون وكل ما تريده الحكومة ننفّذه، وكنت أرتجف خوفاً.
كنّا قد اتفقنا معها أنها بعد وصولها بعشرة أيام ولغرض الاطمئنان أن تكتب لنا رسالة وترسلها بالبريد دون اسم المرسل وهي موجّهة إلى “ياسين سعيد” وتحت رقم صندوق بريد، وفيها تبلغنا أن الوالد بدأت صحته تتحسن، وفي حالة زيادة الضغط عليهم تكتب أن صحته بدأت تسوء، وانتظرنا عدة أسابيع ولم تصل أية رسالة، وعندما سألت الوالدة بعد 20 عاماً عن الحادث، بعد مدّة الفراق الذي استمرّ بيننا، قالت لي ” ولله إنتو بطرانين” – إنتو تدرون شكو؟ أي أنكم بطرانين ولا تعرفون ماذا يجري في العراق؟
خلال السنوات الثلاث الأولى أو بعدها تعرّضت العائلة إلى ضغوط كثيرة واستدعاءات عديدة، وكان مسؤولو المخابرات والأمن وأمن المنطقة والمنظمة الحزبية في زيارات متّصلة للعائلة، لدرجة أن صلاتها انقطعت بالعالم الخارجي تقريباً، باستثناء زيارات الدكتور ناهض شعبان للاطمئنان على أحوالها، وكانت حجّته معه باعتباره طبيباً، وكان والدي شبه مقعد في المنزل بعد أن ترك العمل وأجبر نفسه على ” تقاعد مبكر”، فباع محلّه في سوق التجار (خان النبكه) في بغداد وعاش على بعض أملاكه وأملاك والدتي وما وفّره من مدّخرات، وكانت زيارات الأخوال متباعدة، وكذلك العم الوحيد المتبقي، وهي زيارات شبه خاطفة، وبرضى الطرفين، المُستقبِلْ والمُستَقبَل، والكل كانوا في حالة رعب شديد، ويتفهّمون وضع العائلة الخاص.
في مطلع العام 1985 (ربما في أواخر شباط/فبراير) جاءت عناصر من المخابرات وطلبت من والدتي السفر إلى تركيا للاتصال بي من هناك ودعوتي لزيارتها في اسطنبول، لكن والدتي رفضت ولكنهم أرغموها على الرضوخ، فأخذوا جواز سفرها وثمن التذكرة منها، وجاءوا إلى المنزل بعد يومين ومعهم التذكرة وتأشيرة الدخول والجواز، وتذكّرت والدتي ما أخبرتها به في بيروت بأنهم ربما يكونون معها في الطائرة، وعليها لو حاولوا مجدداً عدم المجيء والتملّص من الأمر بكل الوسائل، وهنا تشجعت وصرخت وقامت بالخروج إلى الشارع، فأوقفها رجال المخابرات ومنعوها، وهي تصرخ بأعلى صوتها، واتصلوا بأحد المسؤولين من تلفون المنزل وأبلغوها بتأجيل السفر، وفي مساء اليوم التالي أصيب والدي بجلطة دماغية، لم تمهله طويلاً، وأظن أنه توفي في مطلع آذار (مارس) 1985.
باختصار هذه هي قصة الكتاب التي دفعت العائلة بسببه ثمناً باهظاً ، وانتهز هذه الفرصة للقول أنني فخور بهذه العائلة: الوالد والوالدة اللذان تحمّلا بسببي آلاماً لا حدود لها، وأجدها مناسبة للاعتذار لهما، لأمر لم يكن لي يدُ فيه، كما لم يكن لي حيلة به، وهكذا هي السياسة في بلداننا وفي مجتمعاتنا العربية، وبالأخص في العراق الذي وصلت فيه العقوبة إلى الدرجة الرابعة، ناهيكم عن القتل على الهوّية، واستبدّ به العنف والإرهاب إلى درجة مروّعة.
كنّا نحلم بأن نستطيع أن نسير بأوطاننا باتجاه الحداثة والعمران والجمال والخير والعدالة والسلام، لكن بعض أحلامنا تحوّلت إلى كوابيس لعوائلنا التي لا ذنب لها، ربما سوى لأنها عوائلنا.

نشرت في جريدة الزمان (العراقية) على حلقتين في 22 و23/9/2020