18 ديسمبر، 2024 11:23 م

من وحي شهريار وشهرزاد (34)

من وحي شهريار وشهرزاد (34)

من وحي شهريار وشهرزاد (34)
أسرار الوعي فوق الحسي
شهرزاد : أتذكر دائما حديثنا عن العوام والخواص في حياة كل واحد منا ، وأقرأ عن معانيَ مختلفة لمّا ذهبتَ إليه في (محبة الناس) ، هل لنا أن نخوض أسبار هذه المعاني؟ .

شهريار : كأنك تقصدين المعاني التي ذهب إليها بعض المتصوفة ، هم يتحدثون عن معرفة الخلق بالخالق ويجعلونها ثلاث مراتب أولاها لعوام الناس ،وهي ما يتعلق بمعرفة (العبودية، والربوبية، والطاعة ،والمعصية، والنفس،وغيرها).

أمّا معرفة الخواص:فأنها مرتبة متقدمة من المعرفة بـ(الإجلال والعظمة، الإحسان والمنة، والتوفيق) .

وأعلاها معرفة خواص الخواص: (الأنس والمناجاة، و اللطف والتلطف، ثم معرفة القلب، ثم معرفة السر) .

وهذا التصنيف منسوب الى أبي يزيــــد البســـطامي ، ولا يختلف كثيرا عمّا ذهب أليه العديد من المتصوفة .

ويجعل أهل اللغة عامة الناس ،وجمعها عَوامّ، خلاف الخاصة (جمعها خواص ) ، وهم أعيان القوم و أكابرهم.

وكما إن لمعرفة رب العزة مراتب وفي اللغة عوام وخواص فان للمحبة في قلوبنا مراتب ثلاث تتعاظم أو تتقلص على قدر مكانة المحبوبين وتأثيرهم وتأثرهم، وإن للقلوب تصنيفات عجيبة ليس لنا سلطان عليها في كثير من الأحيان ،لكننا ندرك تماما إن لها أعيانا وأكابرَ قوم يتربعون على عروشها ويلامسون شغافها ، ويمتلكون نبضاتها .

وقد ذكرنا فيما سبق أن من الناس من لا يتجاوز دائرة همومنا ، وتلك محبة عامة نبعد بها عن قلوبنا أشباح الكراهية والضغينة ، فهم أبعد من أن يتأثروا بدموعنا وهم في أقصى الشرق او الغرب وقد ينالهم منّا دعاء خير ورحمات نازلات من السماء ، ومن المفترض أن لا يكون لهم تاثير سلبي على محيطنا فهم في فضاءات أخرى بعيدة كل البعد عنا ، سواءً كانوا في عالم افتراضي جلبته لنا التكنولوجيا ،أو في واقع مرير لا نصل إليه ولايمكننا تغيره ، وبأدراكنا لهذه الحقائق تتقلص دائرة همومنا ، وتتسع دائرة إهتمامنا بعالمنا الحقيقي حيث يسكن عامة الناس الطيبون ممن نخالطهم بشكل مستمر ، ونبحث عن المحبة في قلوبنا لهم كما نلتمسها في قلوبهم نحونا ، فإنْ اقتربنا أكثر دخلنا دائرة التاثير حيث يتربع الخواص من الأهل والأصدقاء ،والجيران المقربون، وعالم ناسك ، أو معلم بارع ترك في نفوسنا أطيب المعاني والهمنا سبل النجاح ، فان لامسنا شغاف القلوب تهادت النفوس الى خواص الخواص حيث السكينة والطمأنينة وسحر العشق وتعانق النفوس.

لا أدري حقا ياشهرزاد أين أضع الوالدين في هذه الحلقات المتناغمات ، ليس لهما مثيل ،لا في محب خليل ، ولا في عشق جليل ، فهما الأصل والحب الأصيل ، هما منبع الإهتمام ، وصومعة الألتزام ،وأبواب الجنان ،هما التأثير والإيثار وسحر الأثير ، وهما بشكل عجيب دائرة الهموم إن ضاع الرضا ، وحلت مكانه قساوة الأبناء ،وتعاظمت في قلبيهما مرارة الجفاء .

شهرزاد : حقا أنهما بلا مثيل ، مازالت كلمات أمي ترن في أذني، ويقشعر لها جسدي وكأنها معي بعد أعوام من رحيلها ، غير إنني أذكر لها كلمات قاسيات تشعرني بالاحباط ، وأخرى ترفعني الى عنان السماء .. يا الله كأنها نور في قلبي ،ولا يخلو الأمر من ظلمات تشعرني بالآسى .

– كيف لايكون للأم تأثير سحري على من سكن أحشاءها ، وتغذى على نبضات قلبها ، هنالك كنا نشعر بأمان منقطع النظير، حيث نسبح في فضاء وفير ، تحيطنا أطواق ثلاثة ، وتحمينا أنفاس حالمات ، ونبضات حانيات ، كأنها قلعة محصنة لا يبلغها الشر ،أو سماء صافية من كل كدر .

هنالك ياشهرزاد لم نكن نتلقى الجينات الوراثية فحسب ، بل نتعلم الإشارات فوق الحسية ، ونستعد لرسائل وديّة ، وأخرى لانور فيها مظلمة ورمادية ،ليس في الأمر صدفة ، وليس فيه ما يثير الدهشة ، من حيث أنطلقنا الى الدنيا ،وساعة إنفصالنا عن المشيمة ، كنّا مهيئين لرابط مقدس لا إنفصام له حتى آخر نفس في حياتنا.

شهرزاد : حقا هنالك ما يثير العجب بالحدس العظيم لدى الأم حينما يكون أحد أولادها في خطر ، وإنْ كانت بينهما مساحات شاسعة !.

– نعم ياشهرزاد فإن الوعي فوق الحسي يتجسد بشكل عظيم لدى الوالدين وعند الأم بشكل أعظم ، ويقول علماء النفس : أن الأفراد من ذوي الروابط الإنفعالية القوية لديهم فرصة أعظم لتحقيق التواصل النفسي فوق الطبيعي عبر رسائل إنفعالية لا عقلية ، فالإنفعال هو ( فولتاج ) الوعي فوق الحسي.

ودعيني اسألك هنا : من على هذه الأرض أشد ارتباطا نفسيا ،أو انفعاليا مَعَنا من الأم؟ ، وكيف لا وقد بُعثتْ الروح فينا ونحن بين أحشائها ؟ .

تلك النفخة الإلهية ، والأنوار الربانية مرت عبر القلعة المحصنة ( الأم ) لتصل الى أجسادنا الرقيقة ، ولتعلن إنبعاث الحياة فينا ، فتناغمت مع نبضات قلبها ، وزادت من حنينها ، ومدت بينها وبين جنينها أواصر متينة لا يعلم سرها إلا الله .

في تلك اللحظات المباركات خُلقت المحبة العجيبة ..إنها سر التعلق الموصول بين المولود ووالدته حتى بعد الرحيل .

وقد يكون واضحا بعد هذا التقديم سر الإحساس المتبادل بين التوأم وإنْ باعدت بينهما المسافات ، وقد تلقيا ذات الحماية الإنسانية والرعاية الإلهية ،كأنهما روحان في جسد واحد قبل الولادة ، وروح واحدة في جسدين مااحياهما الله على هذه الأرض .

شهرزاد :مقنع حقا..لكن ماهو سر الوعي فوق الحسي لدى الأب في هذه المعادلة ؟.

شهريار : إنما سمي الأب والداً لأن المخلوق الجديد كان نتاج النطفة والبويضة ، وكأن الوالد قد شهد كل صغيرة وكبيرة في أحشاء الأم ، وتعاظمت إدراكاته فوق الحسية مع لحظة نفخ الروح ، وتجلت في أبهى صورها وهو يحمل المولود بين يديه فرحا مستبشرا بمحبة ونعمة من السماء .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]