23 ديسمبر، 2024 5:56 ص

يطرح الحشد الشعبي بأنه حشد مقدس وتضفي فصائله وغيرها صفة القدسية على وجوده والذي يتمظهر بصوره المتعددة وتصل فصائله الى 79 فصيل من عصائب اهل الحق، قوات بدر، حشد الامام، سرايا السلام، ممهدون لظهور القائم وغيرها، تلك التي تأخذ دور الملائكة واسماء الله والائمة وربطها بميليشياتها. يضاف لذلك أضفاء القدسية على بعض المدن مثل كربلاء المقدسة و كذلك النجف والكاظمية والاستدعأت التاريخية لمقتل الحسين واعلامه وصوره ولثاراته، وفصائل المقاومة الولائية وغيرها.
هذا المسار يعكس جبهتين للصراع على السلطة السياسية والذي يعتقد بأن الوصول اليها يمهد الطريق لتحقيق مشروع دولة الإمامة. المسار الاول هو الصراع مع داعش وغيرها من ميليشيات الاسلام السياسي السني (مشروع دولة الخلافة). في مجرى هذا الصراع يسعى كل طرف لأضفاء القداسة والاسطرة وكل المتخيل على وجوده وفعاليته. داعش ولأسباب فقهية – مذهبية لم ترى نفسها مقدسة، ولكن طرحت نفسها راعية للمقدس أو أداة لتنفيذ إرادة المقدس. المسار أو الوجه الاخر لهذه القدسية يعكس الصراع على مراكز النفوذ بين الفصائل واحزابها ومن هو الاقرب بحلقة الوصل بالامام الغائب. انه السلوك السياسي الذي يتخذ من الدين أو المذهب كمرتكز له في السياسة، وفي حركة الميليشيات بأعتبارها الذراع العسكري لأحزاب الاسلام السياسي. فمن المعروف للقاصي والداني انه لا يوجد شئ من هذا القبيل أسلاميا وتاريخياً ومذهبياً. هذا الامر نابع كما يبدو من موقع فكرة الامامة عند الشيعة بأعتبارها من اصول الدين في الوقت الذي لا تكون كذلك عند المذاهب السنية.
أن فكرة تقديس الحشد هو أحد اشكال النوسستالجيا أو الحنين للماضي. أن اللازمة أو المقدمة التي تفتح فيها المجالس الحسينية على ألسنة القراء ( يا ليتنا كنا معك لفزنا فوزاً عظيماً وغيرها من شعارات كل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء) هي راسخة في اعماق التفكير الشيعي وخاصة جماهيره. لقد خُذِل الحسين من قبل من دعاه ومن بايعه، وسبق ذلك شكوى علي بن طالب وخذلانه من مناصيره، وكذلك ما واجهه الحسن وزيد وغيرهم من شعيتهم. أن فكرة اضفاء القدسية على الحشد يعني ذلك الثبات في القتال لتحقيق دولة الامامة المنشودة، ولن يكون هناك تراجعاً أو خذلان. هو تعويض لفكرة الخذلان التي عانى منها ائمة أهل البيت من قبل شيعتهم في محطات عديدة باعتبارهم بشراُ. هذا الخذلان أو الخيانة كما في حالة الحسين وغيرها تتجسد مرارته في الوعي الشيعي حين شكل بعض من قادة جيوش علي بن ابي طالب، قسماً كبير من جيش عمر بن سعد. أصلا هذا الجيش تشكل من مناصري علي ومن دعاة ومبايعي أبنه المغدور للثورة، ولم يكن هناك وجود لجيش الشام المزعوم.
أورث هذا التاريخ الملتبس عقدة الشعور بالذنب على مدى هذا التاريخ الممتد الى يومنا هذا. هناك حلم يراود أوساط عديدة لفكرة النصرة لقضية الحسين بأعتبارها قضية يومية وحياتية حاضرة على الدوام، بما فيها فكرة الانتقام من قتلة الائمة ومن أحفادهم أعتمادأ على بعض المرويات الشيعية. أنه الحنين الى حركة التوابين وجيش المختار والذي قتل وبأبشع الصور قتلة الحسين وآل بيته وأصحابه. ما زالت ذاكرتي تستعيد تلك اللوحة الكبيرة التي كانت تعلق في المجالس الحسينية للمختار وهو جالس على كرسيه الكبير وأمامه يجري قتل وتعذيب قتلة الحسين. فهذا الذي يُطبخ في قدر كبير. الاخر تقطع أوصاله. شخص تقطع أرجله أو تقلع عينه وغيرها. أنها لوحة من الجحيم للتمثيل بقتلة الحسين وآل بيته. هذه الصور وغيرها من صور التجيش العاطفي كانت تخزن العنف ضد قتلة الحسين وآل بيته ( الامويين أساساً والخونة من الشيعة دون الاعراب عنهم ). لاحقاً تحول هذا العنف والكره الى المختلف طائفياً (الامويين السنة مع العلم انهم لم يكونوا سنة وقد ظهر هذا المصطلح بعد زوال الدولة الاموية)، وامتد ليشمل أحفادهم. المفارقة أن أحفاد قتلة الحسين والذين خذلوه وخذلوا آل بيته هم من العشائر العراقية التي يشكل أبنائها الان مصدراً اساسياً لقوات الحشد الشعبي بما فيهم قيس الخزعلي قائد عصائب أهل الحق الاكثر تشددأ بين فصائل الحشد والمقاومة ( انظر رد سماحة المرجع الديني في محافظة كريلاء الشيخ عبدالحسين الملا لعيبي على قيس الخزعلي ).
تحول هذا الامر لاحقاً الى أحد العوامل التي استخدمت في تسييس الهوية الشيعية. لذلك تلبس المالكي شعار مختار العصر ووجد لهذا الامر صدى في الجموع المهيجة طائفياُ دون الرجوع أو البحث عن شخصية المختار وطبيعة حركته. تقديس الحشد هو تجسيد لذاكرة مبنية على العنف والقتل الوحشي وتبريره. انها مثال حي على أضفاء الطابع الديني أو الالهي على السياسة التي هي ذات طابع بشري.
جانب أخر لهذا التقديس هو تعويض لواحدة من أهم أحباطات الفكر السياسي الاثنى عشر والذي ابعده عن النضال السياسي أو المساهمة فيه من اجل اقامة سلطته بدعوة أنتظار المهدي المنتظر وجيشه، لاقامة دولة العدل الالهي. أن القداسة هنا لتأكيد شعار ما ننطيها، ذلك الشعار الذي شكل المنهج الاساسي في مشروع المالكي وغيره من أحزاب الاسلام السياسي الشيعي. هو الهروب من نموذج الدولة الحديثة بأتجاه نموذج الدولة الاسلامية المأزوم والذي شكل داعش واحد من أكثر صوره وحشية ودموية، اضافة لنموذج ولاية الفقيه الثيوقراطي.
هذه الدولة الحديثة التي لا يمكن الا ان تكون في حالة العراق الحالية سوى الدولة العلمانية والديمقراطية ودولة العدالة الاجتماعية.
لم يتمدد الحشد الا بفضل دخول داعش وأحتلال الموصل وفتوى المرجع السيد السيستاني. أخذ فيما بعد طابعه المؤسساتي بقرار البرلمان العراقي وقرار رئيس الوزراء حيدر العبادي. انتجت ميليشيات الاسلام السياسي الشيعي لاحقاً حكومة عبد المهدي. لم يكن في ذلك وغيرها من الامور ما يجسد فعل الهي أو قدسي أو تفويض من إمام معصوم غائب أو حاضر. لكن الخزعلي يرى أن : “الحشد الشعبي سيبقى حتى ظهور الإمام المهدي – منقول. هذا التصريح وما يماثله، يشكل نموذج للعديد من الافكار المتداولة في هذا الاطار. ان أضفاء القدسية هي محاولة للهروب من دورالحشد المحدود والذي ارتبط بظرف تاريخي وسياسي محدد والذي هو في نهاية المطاف وجود مؤقت. أن محتوى هذا الامر هو التأكيد على الدور الاستمراري والحتمي لانتاج حكومات الميليشيات المتلاحقة. بمعنى أخر ايضاً، لا تستطيع أي فتوى من مراجع الافتاء أو اي من قرارات الحكومات القادمة حله. هم بعبارة أخرى يريدون قراريصدر من المهدي المنتظر بحله !!!.
أن تقديس الحشد يقود في مجرى الحياة الى أسقاط القدسية عنه. هي تناقض الصورة المثالية مع واقع الحال. اي مقدس ذلك الذي يعتبر نفسه عامل الدفاع الذاتي عن الشيعة بشكل عام ( هذا اذا افترضنا وهماً أن الشيعة هي كتلة واحدة متجانسة وصماء)، ويداه تسبح بدماء مئات الشهداء من شباب الانتفاضة التشرينية، غير آلالاف من المعاقين والعوائل المنكوبة بفقدان فلذات قلوبهم، وهم من الشيعة اساُساً، خرجت للاحتجاج ضد حكم تشكل فيه أحزاب الاسلام السياسي الشيعي موقع المتحكم فيه. اي حشد مقدس ذلك الذي يوجه سلاحه الى الذين جاء بأسمهم وبأسم مظلوميتهم وليدافع عن مصالحهم، في الوقت الذي يذهب للقتال وتبذير أموال العراق وأيران في الدفاع عن النصيرية والتي اتخذت اسم العلوية أو الزيدية ( الحوثيون مع التحفظ باي مقدار يمثل الحوثيون مذهب الزيدية ) من أجل الدولة الشيعية الكبرى. فالأولى كما هو معروف هي فرقة شيعية ملعونة ومكفرة في الفقه الاثنى عشر والثانية كذلك، ويعتبرها بعض فقهاء الاثنى عشرية فرقة ناصبية حيث لا تعترف الزيدية بخط الامامة للاثنى عشرية ولا تعترف بإمامتهم.
لقد فاحت رائحة هذا المقدس بالفضائيين والتي كشفها رئيس الوزراء السابق وأحد أركان حزب الدعوة حيدر العبادي. أن الفساد يلاحق سمعة هذا المقدس والتي تتعفن في هذا المستنقع. غير دوره في نهب الدولة والإبقاء على هامشية وجودها. وعلى هذا القياس تمتد سياسة هذا المقدس وسلوكه اليومي بحيث انه لم يعدو سوى كونه تعبيراً عن تحالف قوى ألاستبداد الفساد.
يلعب المقدس في الاديان عموماً منها الاسلام دور محورياً في العلاقة والسلوك بين المعبود والعبد، ومن أكبر الخطايا في الاسلام ومذاهبه هو تجاوز او ملامسة المقدس، ويمتد هذا الامر بتقديري لكل الايدلوجيات الشمولية. جرى تسويق هذا المقدس يومياً وبشكل متواصل من خلال ( اسلام التجهيل). أنها أعادة التحكيم في المجتمع عن طريق تدوير الخوف بأساليب أخرى. أن الخوف هو واحد من ابرز العوامل في التحكم وإدارة المجتمعات باتجاه الانظمة الديكتاتورية. ولنتذكر تجربة صدام في هذا الصدد. لا تنفك أحزاب الاسلام السياسي بالتحذير من العدو الذي يهدد المذهب والدين والكيان الوجودي للطائفة. أن لم يكن موجود ولم تنفع المغالاة بدوره فانها تسعى لخلقه. كثير من المعلومات الموثقة تتحدث عن التخادم لأنشاء أو دعم تشكيل العدو النوعي. الى جانب ذلك يوفر المقدس وكل المنظومة الدينية بالاستناد الى آلية التأويل للقران وفهم السنة كُلاً عن طريق أحاديثه، طريقاً لتجاوز أزمة الضمير المفقود عند ميليشيات الاسلام السياسي بما فيها الحشد وفصائل المقاومة. هي بمثابة جزء من آلية الوهم والتخدير الذاتي، فالكثير من فصائل الحشد متهمة بالقتل والنهب والاستلاء على الممتلكات العامة والخاصة والاحتيال على الدولة وقمع المحتجين وادارة سوق المخدرات والدعارة وتصدير الخمور وغيرها. أن إضفاء المقدس على الحشد هو يماثل الى حد ما سلوك داعش والقاعدة لتبرير جرائمهما ولكن هنا يكتسب الامر براغماتية اكثر. عموما تمثل الايديولوجية الدينية والطائفية طريق سهل لتبرير الذنوب وغسلها وتجاوز ازمة الضمير. مجهول المالك مثلاً حياً لذلك.
أن المقدس الذي يرتبط بالوعي الجمعي والذي استغرق صياغته قرون طويلة. لن يستطيع الحشد ولا غيره أن يلوي عنق التاريخ بسلاح أو فتوى دينية ويختصر الزمن كله، كي ينقل ارادته الى وعي جماهير الشيعة.