23 ديسمبر، 2024 5:58 ص

الإلحاد ، هل هو الكأس المقدّسة ؟ (6)

الإلحاد ، هل هو الكأس المقدّسة ؟ (6)

نحن نعيش في عصر ينوء تحت سطوة موجة الإلحاد ، ويُنظر (عالميا) للأنسان الذي يؤمن بالله وبالغيبيات التي يجب تمييزها عن الخرافات ، على أنه سطحي وغير علمي وليس محل ثقة ، بل يصل الأمر الى عزله وكأنه منبوذ ! ، ولهذا الأمر أسباب كثيرة ، منها ردات الفعل التي أخذت بُعدا تشدديا هي الأخرى على إساءة استغلال الأديان ، كمحاكم التفتيش الكنسية في أوربا ، و(داعش) لدينا ، وسائر أنواع التشدد الديني ، التي جعلت من الأديان وحشا يهرب منه الخلق إلى درجة التمرد ، لكن الأمر ليس كذلك ، فالكثير من العائدون يقولون ، أن الموت لا بأس به ، لا بأس به على الإطلاق ، وستجد أن ثمة تطابق شديد مع وصف القرآن الأخّاذ لجنات الخُلد !.

غالبيتهم (هؤلاء العائدون) لا يريدون العودة إلى الحياة عند تخييرهم بين العالمين ، وبنفس الوقت ، فقدوا تماما شعور الخوف من الموت ، وتغيّرت حياتهم دراماتيكيا ، فقد أصبحوا إجتماعيين وأكثر ألفة ورقة قلب وميالون للإحسان ، وما أن ترى أحدهم وهو يسرد مراحل فراقه لجسده ، إلّا وأجهش بالبكاء شوقا ، وأن الزمان والمكان لم يعودا ذوا قيمة ، وحتى اللغة ، فكل شيء من أسئلة وأجوبة وحوارات تتم بتبادل الأفكار (التخاطر Telepathy) تلك (اللغة) الكونية .

هناك ، يجمع الجميع على أنهم لا يشعرون بالغربة ، بل على العكس تماما ، يحس في داخله عميقا أنه يعود إلى دياره ، وهنالك حديث شريف (أحدهم بمسكنه في الجنة ، أدلّ بمنزله كان في الدنيا) ، بل يتذكر انه كان ضيفا ثقيلا على ما يسمى الحياة الدنيا ويشعر إنه تخلص من عبء هائل حيث الجسد ، بأمراضه وغرائزه وحاجاته ، ولا يحتاج إلى قدمين ليتحرك ، ولم يعد بحاجة إلى عينين ليبصر ، فحدة بصره والطيف اللوني لا يمكن مقارنته بضآلته في الدنيا وما يرافق ذلك من قوانين الفيزياء ، ففيزياء الكم ، اثبتت على الأقل نظريا ، أن هنالك عددا لا يُحصى من الأكوان المتوازية ، وبالإمكان (نظريا أيضا ) التنقل بينها .

لو دققت في شهادات المحتضرين على فراش الموت وما يتمتمون بها من كلمات قبل الوفاة بلحظات ، فسنجدها غير منطقية ونضعها في خانة الخرف والهلوسة ، ونفس الشيء المصابون بإنفصام الشخصية المتعدد (Multiple personality) ، سننظر إليها على إنها مرض نفسي ، ولكن المؤكّد ، أن هؤلاء يعيشون فعلا هذه الأجواء التي يتحدّثون عنها ، فهل أن المعيار أن ننسبها إلى مرض لأننا (الأكثرية) الذين لا نراها ؟ ، هل شاهدتَ فلم (العقل الجميل A beautiful mind ) وهي قصة حقيقية لعالم رياضيات حائز على جائزة نوبل ، البروفيسور (جون ناش John Nash) ، يتعرف على عدة أشخاص يتكلم معهم ويكلمونه ولكن لا أحد يراهم سواه ، ثم إستنتج (وهمية) وجودهم لأنهم لا يكبرون بالعمر رغم مرافقتهم إياه لعدة سنوات !، فمعاينة هذه الأجواء (اللامنطقية) تحدث فعلا للشخص (المهلوس) ، فهل ربما لأنهم إمتلكوا مَلَكة الوقوف على عتبة ما بين عالمين متوازيين (بسبب الإنفصام أو الخرف أو الإحتضار) ، بحيث تمكنوا من أن يطلوا على العالم الآخر ؟ .

وقبل التطرق إلى الظواهر المشتركة لهؤلاء (المحتضرين) ، رُب سائل يسأل ، لماذا هذه الظاهرة غير مألوفة ومنتشرة على نطاق واسع ، فالكثير ممن توقفت قلوبهم أو عانوا من الغيبوبة ، لا يرون شيئا ؟ ، يتحدّث علماء النفس عن نظرية ، ان كل نائم يحلم ، لكنه ينسَ حلمه عند إستيقاظه ، كذلك هؤلاء ، قد ينسون رؤياهم ، بل أحيانا يتعرضون لحدث ما ، يقوم بتحفيز ذاكرتهم ، فيتحدّثون عما مرّوا به ، بعد عدة سنين .

ومن الظواهر المشتركة إلى درجة التطابق الملفت لهذه للإفادات :

1. مرحلة الخروج من الجسد المادي بعد توقف أعضاءه الحيوية ، وتركه بحيث يستطيع رؤيته من خلال جسده الذي يسمونه الأثيري ، وتسمى هذه الظاهرة (الخروج من الجسد Out of Body Experience , OBE)، الكثير منهم لا يُدرك أنه مات ، بل قد تمر فترة لا بأس بها حتى يدرك ذلك ، يصاحب ذلك القليل من الإستغراب لكنه يتداركه بسرعة ، وقد لا يخطر على باله أن وعيه (Consciousness) مستمر ! ، مع شعور بالإستخفاف من جسده المادي وكأنه تخلص من عبء ثقيل ، و الذي يبدو مثل قوقعة إنتهى مفعولها ، مع إنعدام الشعور بالخوف أو الإستغراب ، وعادة ما تكون زاوية النظر من أعلى ، قرب سقف الغرفة أو على إرتفاع أمتار قليلة من جسده المادي ، يرقب بدقة جميع المتحلقين حوله من جرّاحين أو من المارة إن كان سبب “الوفاة” في قارعة الطريق ، وبالمناسبة ، قد تحصل ظاهرة الخروج من الجسد بإرادة الذين يمتلكون رياضة روحية عالية بواسطة (التأمل Meditation) ، ويَطلق على هذه الظاهرة إصطلاح (الإسقاط النجمي Astral Projection) .

2. إمتلاكه لصفات خارقة غير مألوفة ، كالرؤية البانورامية الحادة ، وشحذ شديد لجميع الحواس (الناس نيام ما حيوا ، فإذا ماتوا إنتبهوا) ، يرى ما يريد بمجرد التفكير مهما بلغت المسافة ، وأستطاع الكثيرون وصف ما كان يحدث في لحظة الإحتضار عند أقارب أو معارف يبعدون عنهم آلاف الكيلومترات (وكشفنا عنك غطائك، فبصرك اليوم حديد) ، والكثير منه يشعر بالإلمام بكل علوم الكون ، يمكنكم مشاهدة ما ترويه السيدة (فيكي نوراتوك Vikki Noratuk) وقد نشرتها معظم وسائل الأنباء العالمية ، وهي تقص علينا رحلة مقاربتها للموت ، لكن هذه المرأة وُلدت عمياء تماما ، لا ترى حتى الظلال ، لكنها إكتشفت إن بصرها سليم في البعد الجديد إلى درجة أخافها ، وفقدت بصرها مجددا بعد أن عادت إلى الدنيا ! ، عدا الكثير من المعاقين ، وقد (حُشِروا) هناك سليمين تماما ، لكنهم بعد أن عادوا ، عاد معهم عَوَقَهم ! ، يتحدّث القرآن عن عقاب من لا يستحق نعمة البصر (قال ربّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كُنتُ بصيرا) .

3. أكثر من 80% منهم يتحدّثون عن دخولهم نفقا مظلما ، يتحرك بداخله بسرعة فائقة ، وفي نهايته نورا ، وتحدّثت عن ذلك الكثير من القصص والميثولوجيات كلوحة (بوش Bosch المرسومة عام 1505) الشهيرة ، نسبة عالية جدا يرون الكون بمجراته وسدمه ونجومه أثناء حركته .

4. الإلتقاء بكائنات نورانية (Entities) ، ترشده وتهون عليه الأمر إن كان خائفا ، يسمونها أحيانا بالملائكة الحارسة التي أوكلها الله بنا ، يعرفون عن “المتوفي” كل صغيرة وكبيرة ، بل حتى الأمور الخافية (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، ق18) ،

5. ليس هنالك أهمية ولا قيمة للمكان والزمان

6. الحديث يتم عادة بالتخاطر (Telepathy) ، حيث لا حاجة إلى لغة .

7. المعاينة تكون على نوعين ، إما فردوسية (Paradise) ، يتحدثون عن مناظر وروائح وموسيقى ، يغمرهم حب هائل لم يألفوه غير مشروط ، والإندماج بنور باهر لكنه لا يؤذي “العين” ، بشكل يعجز الجميع عن وصفه بالكلمات ، (مالا عين رأت أو أذن سمعت ، أو خَطر على بال ) ، إلى درجة التمسك بالبُعد الجديد ، فينسى عالمه الدنيوي ، بكل ما به من إلتزامات وروابط وعلاقات ، فهل توجد غريزة أقوى من الأمومة ؟ ، فحتى الأمهات لا يردن العودة ! بل يشعر باليقين ، أن عالمه الجديد هو بيته الحقيقي حيث ينتمي ، أو هنالك رؤية جهنمية (Hellish) ، حيث المشاهد السوريالية البشعة ، أصوات الصراخ الناتج عن العذاب ، والكثير جدا منهم يشمون رائحة اللحم المحترق والكبريت ! .

8. يُعرض عليه شريط حياته منذ نشأته في بطن أمه ، وجميع الأحداث الهامة في حياته وكأنه يعيشها أولا بألول ، لكن بسرعة خارقة ، فالزمن قد إنتهى مفعوله ، لأنه تركه مع عالمه الدنيوي (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ، الجاثية 29)

9. جميعهم إلتقوا بأحبائهم الموتى (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ابائهم وازواجهم وذرياتهم من كل باب ، الرعد 23)

10. قد يلتقي بمرشده الروحي (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ،يونس:47) ، و(يوم نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، الإسراء 79) ، الكثير يتحدثون عن رؤية السيد المسيح أو النبي محمد أو أي رمز ديني آخر.

11. جميع من عادوا يتحدّثون عن سماعهم لهتاف (لم يحن وقتك بعد It is not your time yet) ، إما من قبل أقربائهم المتوفين أو الكائنات النورانية إيذانا بالعودة الى البُعد الدنيوي ، يرافق ذلك شعور بإنزعاج شديد ، لأن عالمه الحالي لا يمكن مقارنته بالعالم الدنيوي ، بآلامه وتعبه ومعاناته .

12. جميعهم على الإطلاق تلاشى عندهم الخوف من الموت ، بل باتوا يتمنونه .

13. جميعهم إستخلصوا ، أن السّر والمفتاح لرضا الله ، هوالحب وما يترتب عليه من الآثار ، من خُلُق ناعم ، وإحترام الحياة بكل موجوداتها من بيئة وموارد ومخلوقات ، ونبذ الكراهية والحقد والمشاعر السلبية والأحكام المتسرعة ، جميعهم تحدّث عن أهمية الإحسان والكرم ، إلى حيوان أو إنسان ، وكيف أن ذلك من أهم أثقال ميزان الحسنات ، قال الإمام علي (إحملْ أخاك على سبعين محمَلٍ حسَنٍ) ، إي إلتمس له العذر في اي تصرف سلبي يصدر منه ، وقال رسول الله (إن أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلفون) ، أي أولئك الذين تشعر بمحبتهم وإن كنت لا تعرفهم ، أولئك أصحاب المعشر السّهل والأخلاق اللينة .

14. الجميع تحدّث إن الإنسان مخلوق خالد ، ولا يوجد شيء إسمه الموت ، وكل ما في الأمر أن تعيد الأمانة ، هذا الجسد الذي نخلعه مثل الثوب ، ليتفكك إلى عناصره الأولية التي (إستعارها) من الأرض ، ليعود إلى التراب ، إلى حيث ينتمي .

15. ظهور قدرات خارقة للعائدون من الموت ، تتمثّل في الرؤى المنبئة الواضحة (Lucid Dreams) ، أو إستشراف المستقبل ، أو حتى إمكانية التواصل مع كائنات العالم الآخر .

يُعتبر (إفلاطون Plato) والمولود عام 428 ق.م ، أول من وثّق هذه المعلومات في عدة مناسبات ومنها من خلال سرده لقصة الجندي الإغريقي الذي قُتل في أحد الحروب ووضعوه في المحرقة كما كانوا يتعاملون مع الأموات ذلك الزمان ، لكنه إستيقظ قبل أن توقد النيران ، وقص عليهم مراحل موته بتطابق ما هو متداول بشكل يثير العجب ، وكان إفلاطون متأثرا بأستاذه (سقراط Socrates) ، والذي حُكم عليه بالإعدام من قبل محكمة أثينا لأنه أنكر عليهم عبادة الآلهة المتعددة ، وإعتبر ملحدا (!!!) ، من هنا نبرر إستسهال سقراط للموت بالشرب من كأس مسموم ، رغم إتاحة فرصة هروبه من السجن من قبل مريديه ، بل من قبل بعض المتعاطفين معه والمعجبين بأفكاره من السلطات ، قائلا (لن أعيش للأبد على أي حال ، ولا أريد الفرار كي لا يُقال عني إني لا أحترم القوانين) ! ، وهنالك (كتاب الأموات) في (التيبت) ، والذي كُتب عام 800 للميلاد ، يوجد فيه تشابها مثيرا لما تقدم سرده من مراحل .

الموت ، ذلك اليقين الراسخ الوحيد في هذه الدنيا ، والجميع سيشرب من كأسه يوما ما ، فنحن ننظر الى الموت على أنه ناموس طبيعي ، هذا ما يمليه الفكر الجمعي ، لكنه ليس كذلك بالنسبة لوعي الفرد ، ويبقى ذلك المجهول ، و(الناس أعداء ما جهلوا) ! ، لأنه سيقوم بسلوك هذا الطريق لوحده ، الموت ، للأسف أدات بدلوها فيه الكثير من نصوص الفقهاء عند المسلمين ، فجعلت منه بُعبا مرعبا سورياليا مخيفا ، وكأن الخالق عزّ وجل ينتظر ساعة العبد لينتقم ، فتعالى عن إلتذاذه بسادية في مراحل العذاب أثناء نزع الروح وما بعدها علوا كبيرا ، وإن تبنّت هذه الأدبيات العقول ، فسيعيش الإنسان كئيبا دون عمل ، متفكرا في سوء مصيره ، لاعنا يوم مولده ! ، يقول الدكتور (عدنان إبراهيم : هؤلاء كذبوا على الله ورسوله ) ، فصفات الخالق لا تُقارن بصفات المخلوق ، من الرحمة الواسعة (كتب على نفسه الرحمة) و(الحسنات يُذهبن السيئات) ، الخبير اللطيف الرؤوف ، أرحم الراحمين ، يعتز ويرأف بالإنسان كالأم بوليدها مهما كان عاقّا ، نراه يرزق عبده وهو فوق الأرض ، فكيف لا يلطف به وهو تحتها وفي حماه ؟ ، وإن كانت المُثلة ممنوعة حتى على الكلب العقور من قبل البشر ، فكيف يمثّل الخالق بالإنسان وهو بين يديه ؟ ، وكأن الأمل والأمن من العذاب من المحرّمات في أدبياتنا ، لهذا نسأل الله اللطف برحمته ، لا بعدله ، فإن كان الحساب بالعدل وحده ، فمصيرنا سيء ، فكلنا خطّاؤون ، والخالق خير مَن يعلم (فألهمها فجورها وتقواها) ، وبهذا فرّقنا الله عن الملائكة ، فجعلنا أرفع منزلة .