أبرز مظاهر الفساد الذي أسست له الأحزاب في العراق الديمقراطي بعد 2003، هي ظاهرة بيع المنصب التي جلبت الخراب والدمار في جوانب الحياة المختلفة داخل المجتمع العراقي والذي لم يشهد له مثيل في تأريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها في 1920. المتتبع لتأريخ العراق الحديث والقديم يعرف جيدا، أن بناء الدولة العراقية أعتمد أساسا على إسناد المواقع الحساسة والمناصب الإدارية لأصحابها الكفوئين من ذوي المؤهلات العلمية والمهارات والخبرات العملية والقدرات العقلية، إلى جانب دراسة انتماءات المرشحين وولائهم الوطني من خلال سيرهم الذاتية. ومن البديهي القول انه لا يمكن بأي حال من الأحوال أدارج بعض الحالات الشاذة هنا أو هناك واعتبارها واقعا للسلوك الطبيعي والسائد في عهود ما بعد الملكية حيث شهدت فترات الحكم الدكتاتوري منذ 1958 في العراق بعض التجاوزات على مواقع الدولة المهمة وأسندت المناصب لمن هم ليسو أهلها.
لكن يبقى التساؤل الأهم وهو ما مدى التجاوزات على قدسية الأمانة التي أنبرى لتحملها مجموعة من علية القوم والمحسوبين على تيارات تدعي المسؤولية الوطنية والشرعية والأخلاقية، والجهاد، والنزاهة، والأيمان بالعدالة الإلهية والإخلاص بالانتماء للوطن، والحرص على مستقبله. هنا يستحضرني المثل الانكليزي القائل:( أسوء الفساد هو فساد الأفضل) حيث أن الخوف يمكن أن يستحوذ على المرء إذا عرف أن من يدعي الشرف والحق والعدل هو ذاته من يفسد ويخرب بلا واعز ديني أو أخلاقي أو عرفي. أما من هو معروف بالفساد والسوء فهو لا يؤثر بقدر تأثير الطبقة المحسوبة على أصحاب المثل العليا أو النبلاء. أن فساد إي مجتمع إنساني يبدأ بنخر أخلاقه أولا حينما تعطى مسؤولية أدارة شؤونه إلى رجال هم بالأساس غير مؤهلين لتولي المسؤولية، ولا يتحلون بالخلق الرفيع والإيمان بأن خدمة الناس، وعلى مختلف انتماءاتهم الطبقية والسياسية، وخلفياتهم الثقافية والدينية والعرقية والمذهبية، هي مسؤولية إنسانية و أخلاقية وليست سوق تجاري أو بورصة مالية. إذا كانت القيم الإنسانية والسماوية تضرب عرض الحائط، ولا يحسب لها أي حساب ويصبح القانون السائد في المجتمع هو الفساد، فلا نظام يبقى ولا أمان، وتستحيل الحياة بطبيعة الحال إلى فوضى ودمار شامل لا يبقي للخيرين عندها أي مجال لإصلاح ما دمر لأن النفس الإنسانية هي التي خربت قبل خراب المجتمع أو قيمه وموازينه العامة. بيع المناصب في العراق أصبح ظاهرة لا بد من الوقوف على دراستها والبحث في ضرورة إيجاد حلول جذرية وليست ترقيعية لمحاربتها والتخلص منها عبر التفكير في تشريع قوانين تحد منها أو أحداث تغيير شامل في النظام الإداري وبنيته الهيكلية والمنهجية. أن التفكير في القضاء على تلك الظاهرة لا يمكن أن يتم من خلال معالجة الجوانب الشكلية أو الحالات الفردية وذلك بزيادة و توسعة الأجهزة الرقابية بل أن التجارب الإنسانية في مجتمعات عالمية أظهرت أن الحل في أحداث ثورة تغير تغييرا شاملا في قلب الواقع على عاقبيه، وبسحب يد وتقليص تأثير اليد المخربة والفاسدة والخلاص من المحاصصة الحزبية هي الحلول المثلى لهذه المشكلة. شراء مقعد في البرلمان العراقي أو حقيبة وزارية في تشكيلة حكومية أو إدارة مؤسسة أو حتى مكتب أصبح له تجاره وأسعاره، وهذا الحال سيؤخر إي فرصة للتقدم وازدهار البلاد وتعطيل الاستفادة من الخبرات العملاقة والكفاءات العلمية للنهوض بواقع سياسي واقتصادي واجتماعي متقدم للبلد. الحل في محاربة المحاصصة الحزبية وتشريع قوانين تجرم إقصاء الرجل المناسب في المكان المناسب. إذ بدون ذلك، سوف يصبح العراق أفسد بلد بالعالم وتصبح حياة الشرفاء فيه عبارة عن معانات وقهر وإذلال.