عرفت الساحة الأدبية في الداخل الفلسطيني العديد من نقاد الشعر والقصة والرواية، من هؤلاء النقاد المرحوم عيسى لوباني، ابن الناصرة، الذي عانق ضوء الحياة في المجيدل العام 1926، وغادرها في العام 1999.
مارس عيسى لوباني شتى الألوان الادبية، فكتب الشعر والقصة القصيرة والرواية، واقتحم ميدان النقد. وله عشرات المقالات في النقد الأدبي، التي لم يجمعها ولم تصدر في كتاب. واستمد ثقافته وادبه من مصادر متعددة وينابيع نهل منها الكثير، لكنه لم يرتوِ منها.
كان لوباني في نقده صريحًا حادًا ساخرًا في بعض الأحيان، لا يحابي احدا، لم يجامل أو يتزلف، وكان يطري على العمل الإبداعي الراقي الذي يستحق الاطراء والثناء، ويقدم الملاحظات لأصحاب النصوص الضعيفة والأقلام المبتدئة.
واتسم بالحس النقدي الجميل، وكانت لغته عالية المستوى تعكس ثقافته الواسعة المتشعبة، واطلاعه على الثقافات الإنسانية المختلفة والتراث العربي الخالد، ناهجًا أسلوب الناقد اللبناني مارون عبود في نقده.
وكانت لعيسى لوباني زاوية نقدية تحت عنوان ” ميزان الشعر “، بمجلة ” الجديد ” الثقافية الفكرية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الاسرائيلي، واحتجبت عن الصدور منذ سنوات. ويبدو – كما يقول الكاتب الناقد د. نبيه القاسم – أن الدافع لكتابة هذه الزاوية النقدية هو المشادة بين الراحلين نمر مرقس وسميح القاسم، وذلك على أثر تناول نمر مرقس قصيدة لسميح القاسم بالتعليق اللاذع المثير، فما كان من عيسى لوباني إلا أن انبرى وانحاز لرفيقه وصديقه نمر.
وفي زاويته تناول لوباني مجموعة من الشعراء والكتاب وأعمالهم الإبداعية، منهم محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وجمال قعوار وميشيل حداد وسواهم. ووضع على دائرة التشريح روايتي ” المشوهون ” و ” الشارع الأصفر ” لتوفيق فياض، ورواية ” اسمهان ” للكاتب العراقي الأصل ابراهيم موسى ابراهيم وغير ذلك من أعمال.
وكانت الآراء التي أدلى بها لوباني في ميدان النقد، قد أثارت ضجة واسعة في الساحة الأدبية المحلية، وكانت اراءه النقدية تنم عن مقدرة في التعامل مع الأعمال المختلفة.
ونجد أن لوباني أظهر مقدرة لغوية واضحة في نقده للتجارب الإبداعية، وأبرز مهارة بامتلاك لغة الشعر والأدب، ونلحظ ذلك من خلال التوجيهات التي كان يقدمها للقارئ والأديب، وكانت تأتي مقنعة في كثير من الأحيان.
يقول الأديب فتحي فوراني : ” وعلى الطرف الآخر من الطاولة نلتقي الميزان النقدي اللوباني، وهو ميزان صيدلي، جاد وساخر لا يتحمل الدعابة، ولا يعرف النفاق الاجتماعي الذي برع فيه البعض، وإذا اغضب عيسى لوباني محمود درويش فسرعان ما تهدأ العاصفة ويصفو الجو “.
ويدافع عيسى لوباني عن النقد، مهما كان شديدًا في بعض الأحيان، فيقول : ” فالنقد وإن كان شديدًا في بعض الأحيان، لن يثبط العزيمة، ولن يقتل الموهبة، كما يدعي البعض، بل بالعكس، فإنه سيشحذ الهمة إلى الاستزادة من أسباب النضوج في فن الكتابة كما يقول ابن خلدون في مقدمته. لقد شبه ابن خلدون المقدرة الادبية بالضرع – هذا عن وجدت المقدرة، ولم تكن ادعاءً، كما هي الحال عند بعضنا هنا- قال ابن خلدون ” فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء، ويجف بالترك والإهمال “.
وكان عيسى لوباني قد ردّ بشكل حاد وعنيف على شاعر اسمه ربيع، كان اتهمه بأنه يمقت الربيع ويكرهه لأنه يمثل الأمل، فقال : ” “ربيع” يعتب علينا أو بالأحرى يعرّض بنا، ويدعي باننا نمقت الربيع ونكرهه لأنه يمثل الأمل … إننا نحب الربيع ونعشقه، ونبذل ما بوسعنا لصناعة كل ربيع، وتعميمه على الناس ليفرحوا ويغنوا. اما ربيع ” ربيع ” فإننا نمقته من اعماق قلوبنا ونبذل قصارنا لدفنه، لا لشيء إلا لأنه ربيع مزيّف. إنه ربيع “خضراء الدمن” لا ينبت إلا من العفن. أما ربيعنا فهو الأمل والحياة، والعمل من أجل مستقبل زاهر. إن ربيعنا دائم الخضرة، وينمو، وينمو لكي يصبح شجرة سامقة فروعها في السماء، وجذورها ضاربة في أعماق أرضنا الطيبة “.
عيسى لوباني كان رائدًا في الحقل الإبداعي بمجال الأدب والنقد الأدبي، موجهًا، وملتزمًا الصراحة والشفافية والمقاييس النقدية، وساهم في تأسيس وتطوير منهج نقدي أدبي في حركتنا الأدبية نحتاجه دومًا في قراءة الأعمال والتجارب الإبداعية لشعرائنا وكتابنا.