23 نوفمبر، 2024 12:53 ص
Search
Close this search box.

16 / 3 / 1991 ذلك التاريخُ ألأسود

16 / 3 / 1991 ذلك التاريخُ ألأسود

هناك أرقام في حياتنا تُشكل ذكرى أليمة أو مفرحة لايمكن أن تغيب عن الذاكرة مهما حدثت أحداث عاصفة تؤثر في حياة النفس البشرية على طول ساعات الزمن المنصهر مع تقادم التاريخ . التاريخ المذكور أعلاه محفورٌفي ذاكرة أيام حياتي على الرغم من مضي سنوات كثيرة. كلما  حلَّ اشعر أنني اذوب في ذكريات تكاد تحيل روحي الى رمادٍ أو ضباب ليس له عنوان إلا عنوان الحزن والخوف من يومٍ مجهول كان هناك. في هذا اليوم خرجتُ من البيت مع آلاف الجنود الباحثين عن وحداتهم العسكرية التي مزقتها طائرات التحالف في حرب الخليج. خرجت في الخامسة صباحاً ولم أعد إلا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل بعد أن مضى على خروجي أحد عشر عاماً لاأدري كيف مضت وكيف عدتُ على قيد الحياة؟ .مابين تاريخ الخروج وتاريخ الرجوع إنبثقت ملايين لا بل مليارات القصص والحكايات التفصيلية سطرتها كلها في كتاب أسميتهُ – عندما يتكلم الجندي المجهول- ربما سأنشره يوماً ما أو يذهب الى النسيان كما راحت ملايين الحكايات مع ألأجساد التي تمزقت في الصحراء الممتدة مابين الكويت وحدود البصرة الملتهبة. قبل الخروج بلحظات نظرتُ الى أطفالي الثلاثة – اكبرهم في الخامسة واصغرهم في الثانية من سنوات العمر- يتكورون الى جانب بعضهم البعض قرب المدفأة النفطية يتطلعون اليَّ بنظرات مريبة ويتسالون فيما بينهم عن سبب هذا النهوض المبكر من قبلي. عبارة واحدة لازالت تدق في أذناي كناقوس مرعب يعلن ساعة الموت لشخصٍ عزيز  ” بابا أنتَ مو تسرحت من الجيش ..لماذا تذهب ألآن؟ ” . كانت دموعي الحبيسة هي التي تعلن إجابتها عند الفجر قبل الرحيل. في الطريق الى شمال العراق عادت الى ذهني صور جميع ألأجساد المحترقة فوق الدبابات قبل يوم من الهزيمة- نكسة في تاريخ الجيش العراقي لن ينهض منها مادامت هناك حياة على أرض الكوكب ألأرضي – كنا نركض في الصحراء كجرذان أحاطت بها المياه والنيران من جميع ألأتجاهات لانعرف كيف نبقَ على قيد الحياة. الوحدة العسكرية التي كنت فيها- وللتاريخ كما يقول الحمداني في برنامجه الشهير- لم تطلق طلقة واحدة طيلة ال 45 يوما مدة خدمتي فيها كجندي إحتياط -. في الصباح الباكر صرخ آمر اللواء- النقيب باسم- ” إنقذوا أرواحكم. كل فرد مسؤول عن نفسه..سقط الجيش وتمزقت كل الوحدات العسكرية” . تركنا ننظر الى بعضنا البعض لانعرف ماذا نفعل. جلستُ على ألأرض وحيداً أنظر الى السماء السوداء – كانت السماء مغطاة بدخان آبار النفط المحترقة برعب كأن ذلك اليوم هو يوم الحساب. قررت البقاء في مكاني لحين قدوم قوات التحالف وأعلن إندحاري وأستسلامي الى ألأبد واذهب معهم الى أي مكان في العالم ليس فيه قتال وقتل. من بعيد شاهدت خيال زوجتي تلطم عند باب الدار وأطفالي الصغار يبكون على أبٍ ضاع الى ألأبد. شرارة كهربائية عصفت في اوصالي حفزتني على النهوض من هذا – الجبن- الذي غلفني لحظة ألأنكسار. رحت أركض باقصى سرعة وبندقيتي في يدي وكيس على ظهري يحتوي قناني ماء وأرزاق جافة. الصحراء تحولت الى أمواج من الجند الباحث عن الحياة فقط لاغير. لم يكن احد يفكر بالوطن أو التاريخ أو الصولات والجولات. الحياة هي الهدف الوحيد فقط في تلك اللحظات الجهنمية. جثث لا تعدى ولاتحصى مرمية على طول الصحراء لم يعد لها تاريخ سوى الموت. الطائرات السوداء المرعبة فوقنا على إرتفاعٍ منخفض لاتضرب إنسان يسير على قدمه- شكراً للطيار الذي رحمنا في تلك اللحظات- كانت الطائرات تمزق أي عجلة تدب على سطح ألأرض وتترك المشاة التائهين في قلب الصحراء. وصلتُ مع الناجين قرب آبار النفط العملاقة وهي تنفث نيرانها ودخانها الى السماء كأنها براكين من براكين الرعب على طول ألأرض وعرضها. كنتُ اشعر بحراة النار الملتهبة وأنا أركض الى جانب البؤساء من كل المحافظات. سقطت على ألأرض عدة مرات عند قدوم الليل كطفل لايقوى على السير . سبعة أيام بلياليها ونهاراتها نركض بأتجاه بغداد. آلاف الحكايات حدثت لايسع المجال لذكرها ألآن. عند منتصف الليل قرعت باب البيت وصاحت شريكة حياتي برعب – من الطارق.- حينما سمعت صوتي ركضت كغريقٍ شارف على الهلاك وأرتمت في أحضاني تبكي ” هل يعقل أنت لاتزال على قيد الحياة؟ فقدت كل أمل.” . نمتُ في تلك الليل كجنازة بلا حراك وآلاف الصور من صور الصحراء ترعبني حد الموت. إنتهت سنوات الغليان وجاء التغيير وأختفى – الجيش الشعبي من الشوارع- ودارت سرفات الدبابات الحديثة على الطرق السريعة وسقط تمثال – القائد الذي إذا قال …قال العراق- حسب اليافطات المكتوبة في كل ألأتجاهات – وفرحنا كما فرح الناس ورسمنا لخيالاتنا صورأً وهمية من أن التغيير سيوفر لنا كل شيء وسنرتقي الى مصاف الدول العظمى…..ولكن كل شيء ذهب مع الريح وعدنا الى حالات أقسى من حالات العيش في الصحراء عندما كنت نركض هناك بخوفٍ وهلع ناشدين الحياة….الحياة فقط مقابل أن نتنازل عن كل حقوقنا كبشر. مات الحلم وتحولت الحياة الى سراب ووهم وكان ذلك – الموت الأكيد

أحدث المقالات

أحدث المقالات