20 ديسمبر، 2024 1:07 ص

دفاعاً عن المفكر العربي الاسلامي كمال الحيدري

دفاعاً عن المفكر العربي الاسلامي كمال الحيدري

كأي مُصلِح أو مجدّد آخر ، وعلى مر العصور ، لم يسلم المفكر الاسلامي الأستاذ (السيد كمال الحيدري) من أفواه وأقلام التخرص التي يخشى أصحابها من مطرقة (التجديد والتغيير) التي ستطال – بالطَرق – دكاكينهم ، ومصادر رزقهم التي اعتاشوا عليها منذ كم وكم ، والتي وجدوا آبائهم عليها عاكفين .

وأنا – كرجل (مسلم محمدي شيعي إثني عشري) – يهمني جداً أن أستمع إلى ما يقوله الحيدري ، وأجدني شغوفاً بمتابعة محاضراته ودروسه ، وأجد من واجبي واشتغال ذمتي أن أتقصى حقيقة ما يدعيه أو ما يقوله ، ثم أجدني (ملزماً) بأن أستمع لكل رأي مخالف أو مناقض لما يطرحه الحيدري من أفكار ، على الأقل كي أبتني لنفسي رأياً أجده مبرءاً لذمتي في ما يخص معتقدي وعباداتي ومعاملاتي ، لأن التسليم بكل ما يقوله الحيدري يعد مخالفة لإعمال العقل .

الحقيقة إنني وضعت نفسي موضع (المراقب) أو (الصحفي) فيما بين الحيدري ومن ردوا عليه بالنقض ، ولكنني شعرت بالاشمئزاز لسماعي أو قرائتي لتلك (الردود) ، لأنني اعتبرتها محاولات (إنشائية) استهلاكية (سردية) ، خالية من الدليل العقلي أو النقلي ، واعتبرتها (إهانة) واستصغاراً لعقل المتلقي وقابليته على التمييز ، مع ما فيها من (الديماغوجية) التي يراد من ورائها استنفار واستفزاز مشاعر (العامة) ، كما هو حاصل مع كثير من المفكرين والحداثويين أمثال الصادق النيهوم ، ومحمد شحرور ، وعابد الجابري ، ونصر حامد أبو زيد ، وإسلام البحيري ، و محمد نصر عبد الله ، وغيرهم من الأسماء ، مع الفارق بين مستويات العلم والانتاج والأداء وأساليبه .

إن أكثر ما يلفت النظر في موارد الرد على السيد الحيدري هو استخدام بعض المفردات التي تنم عن جهل (مركب) ، فغالباً ما يكون الموضوع الذي يطرحه الحيدري في واد ، ويأتي الرد في وادٍ آخر ، وهذا ما لمسته – للأسف الشدبد – في ردود من كنت أعتبرهم (مراجع) وعلماء .

أو يأتي الرد مشحوناً باستخدام المصطلحات (المستهلكة) بحق الحيدري ، كاستخدام مفردة (المنحرف) ، أو (المرتد) أو (عدو التشيع) ، وهي نفس المفردات التي استخدمها ويستخدمها (الكسالى) ضد المبدعين والمجددين والمفكرين من علماء الشيعة في كل زمان ومكان ، بل استخدمت بعض هذه المفردات حتى مع الأنبياء والمرسلين ، وهذا يدل على تشابه الأسلوب ، ووحدة الغايات .

إن هذه المفردات وكثير أمثالها قد بدأت الانتشار في قاموسية وثقافة اللصقاء بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، في الوقت الذي كنا نشكل وننتقد استخدامها – جزافاً – في المدارس الأخرى من قبل التكفيريين والجهلة المتطرفين من (الدواعش) الذين لا يخرجون عن قاموسيتهم الوضيعة في تسمية من يخالفهم الرأي بتسميات نابزة ، أمثال (رافضي) أو (مشرك) أو (مرتد) أو (كافر) أو … أو … إلخ ، وهذا يضعنا أمام مشكلة تسرب الفكر (الداعشي) لعرصاتنا .

السيد كمال الحيدري – ببساطة شديدة – يفتح كتاباً ، وينشر قرآناً ، ويقرأ مقولة ، ويحقق رواية ، ويضع نصاً على طاولة التشريح (الموضوعي) والعلمي ، أو يمسك بمبضع القرآن ليشرِّح النص بحثاً عن مطابقية النص لكتاب الله ، بيد أن الرادين عليه يمسكون بــ (هراوة) ، وشتان بين المبضع والهراوة ، وهنا يكمن الفرق .

إن الذين ينكرون على كمال الحيدري نقده للموروث الشيعي الروائي ، أو نقضه ليعض الآراء في منظومة الفكر الشيعي ، هم في الحقيقة لم يكلفوا أنفسهم قراءة بعض ما ورد في كتبنا (المعتبرة) من روايات تفوح منها رائحة العفونة ، وتضج بما يخالف كتاب الله والعقل والفطرة السليمة ، وإن أغلب الرادين على الحيدري لم يكلفوا أنفسهم مغبة (مراجعة) نقولاته ، بل يعتمدون على (قداسة الموروث) ، كما هو الحال لدى المدافعين عن صحيح البخاري ومسلم وغيرها من الصحاح التي يعتبرونها (مقدسة) ، دون أن يقرأوا الكوارث التي فيها .

وعلى أساس هذه الردود (الانشائية) لم أجد فرقاً بين الفكر الشيعي ضمن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، الذي يفترض فيه أنه بقر بالعصمة – فقط – لرسول الله والأئمة المعصومين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) ، وبين نظرية (عدالة الصحابة) في فكر مدرسة الصحابة ، متناسين – المدرستين – أن الروايات إنما هي منقولات (رجال) ، وإن آراء العلماء هي ليست قوانين (كونية) ، ولا تمتلك صفة القداسة والعصمة المطلقة ، بل هي قابلة للتشريح والتجريح والرد والقبول والنقض والاثبات .

والأخطر من ذلك ، فإن (أعداء) الحيدري لا يريدون أن يفهموا ما يؤكد عليه الحيدري مراراً وتكراراً في تبيان الفرق بين السُنتين (المحكية) و (الواقعية) ، وهم لا يريدون أن يعرفوا أن (السُنة المحكية) هي نقولات لأشخاص ، وعنعنة محكية ، يعتريها النسيان ، والخطأ ، والزلل ، والنقل بالمعنى ، وفارق الزمان والمكان بين الناقل والمنقول عنه ، فضلاً عن أصابع التحريف والتزييف والوضع التي مدتها أيادي (الدين السياسي) في موروث الشيعة خصوصاً ، وفي الموروث الاسلامي عموماً ، ولا يريدون أن يفهموا بأن الحيدري لا يرد ولا ينكر السنة (الواقعية) الثابتة الصحيحة ، بل هو يضع السنة (المحكية) تحت الفحص ، بحثاً عن ثبوتها أو عدمه ، وصولاً إلى السنة الحقيقية .

السيد كمال الحيدري يختلف عن أعداءه كونه يحترم الرأي الآخر ، ولا ينتقص من العلماء ولا يغمط حقهم في ما قدموه لموسوعة الفكر الشيعي خصوصاً والاسلامي عموماً ، وإنما يذكر آرائهم ، ويناقشها بما يمتلكه من مَلَكة وأدلة قرآنية وعقلية ، تاركاً الباب مفتوحاً أمام الباحث وأمام طلابه ليميزوا بين الغث والسمين ، بيد أن أعداءه غالباً ما يسيئون إليه بأقوالهم وأقلامهم وفتاواهم واستفتاءاتهم وفي مجالسهم (الايمانية) ، وغالباً ما يكيلون له (التهم الجاهزة) على مذبح (الديماغوجية) .

إن كمال الحيدري أمين بشكل نجده فيه حريصاً على أن يقدم آراء العلمانيين والحداثويين ، وآراء العلماء الذين سبقوه ، مغادراً بذلك قوقعة الرتابة ، واجترار الآراء ، والدوران مع تأريخ الفقه ، معتمداً على صلابة أرضيته وعلميته وثقافته الموسوعية ، ومحاولاً أن يفتح أمام (حوزته) وطلابه أبواباً لدخول عالم الثقافة بمختلف مشاربها ، مسافرأ معهم إلى المديات الأبعد .

فهو ينقل بكل أمانة تلك الآراء ، ويذكر معها الأدلة التي يقدمها هؤلاء بين يدي آرائهم ، ثم يقوم بنقض تلك الأدلة أو إثباتها بشكل موضوعي ، وبأسلوب علمي رائع ودقيق ، وليس بأسلوب (الروزخونية) الذين ابتلي بهم التشيع منذ زمن بعيد وحتى يومنا هذا .

إن مدرسة الصحابة (رضي الله عن المخلصين منهم) ، ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تمران الآن بمرحلة ومنعطف مهم ، بسبب تطور أسأليب التواصل ، واختزال المسافات ، ووفرة المعلومات ، وسهولة الحصول عليها عبر شبكات الإنترنيت ، ولأن الشريعة المحمدية تفرض (خاتميتها) التي يُنتظر منها مواكبة روح العصر وحركة ومسيرة التأريخ ، فلابد هنا من فهم جديد للشريعة المحمدية ، بما يواكب استبدال وسائل النقل الحديثة بالإبل والنوق ، وبما يعاصر استبدال الأسلحة الحديثة بالسيف والرمح ، وبما يساوق التغيرات البيئية والمجتمعية ، بعيداً عن (الفهوم) التي وصل إليها الأقدمون ، ولكن بما يناسب (روح الشريعة) والدين ، وبما لا يخدش (الثوابت) التي تستحق – فعلاً – أن تكون من ثوابت الدين .

إن الخطأ الوحيد لدى الحيدري هو إنلاكه ل،، (حرية التفكير والتعبير) الناتجة عن إصابته بــ (عمـى الألوان) ، وعدم قدرته على رؤية الخطوط الحمراء التي وضعها (الكسالى) في طريقهم ، ويحاولون فرضها في طريق المبدعين والمفكرين ، وهذا مما جعل الحيدري شغوفاً في تكرار محاولاته الجادة والحريصة على تقديم (التشيع المحمدي) بنسخته الجديدة ، وبنوتات موسيقية لم تألفها الأذن الكلاسيكية ، رغم أنها تعتمد نفس السلم الموسيقي والمقامات الأصلية ، أو لربما هو يقدم (الشريعة) بنسخة جديدة وبحروف طباعية حديثة لم تألفها المطابع (الحجرية) القديمة ، غير مبالٍ بالذين يحبون رمي (الحجارة) من وراء حُدُر ، ولا يجدون في أنفسهم القدرة والقابلية على (محاورته) وجهاً لوجه .

ولأننا (عرب مسلمون) ، ولأن سجيتنا معروفة في تعاملنا مع المبدعين ، فمن المتوقع جداً جداً جداً أن نصنع تمثالاً للسيد كمال الحيدري ، ولكن ، بعد موته .
العراق – عاصمة العالم المحتلة

أحدث المقالات

أحدث المقالات