19 ديسمبر، 2024 12:09 ص

حكاية تفرد الأمكنة والبلدان طويلة الذيل ،فقلما تجد أهل بلدة يعبرون عن دنو مرتبة ومكانة المنطقة التي ينتمون لها ،وأما حكاية الخصوصية والتفرد فتجد لكل واحد طريقته في تأكيدها وإدلته في الإقناع بها ،حتى نستطيع القول دون أدنى مجازية بناء على حكاية الأهل :”كل البلدان مميزة وكلها متفردة”.
يرى البعض أن الحديث عن خصوصية “العراق” وفردانيته تقع في نفس السياق المشار إليه ،وأن هذه الدعوى من التفرد والفوقية والتميز ما هي إلا شعور الأهل المبني على “الذاتية” ، ونحو من التنافس والغيرة من الآخر،وبالتالي فإن هذا التفرد حاله كغيره نحو من الشعور الأفتخراي أو نزعة نرجسية لدى أهله وليس ورائه من حقائق.
في عقيدتي أن الامر في العراق مختلف جدا عن كل الدنيا ،وإن حكاية الفردانية لها حقائقها وشواهدها ودلائلها ومثبتاتها التي تحتاج إلى عين بصيرة وروح نقية وفهم عميق يتمكن من الوقوف عليها وإدراك معطياتها ،فقد لعبت عوامل أربعة في خلق سمات أربع من التميز العراقي المتفرد دون كل بلاد الدنيا وهي:
– إرادة ربانية زودت العراق بـ (الخصائص الذاتية) التي تتجلى في الموقع والخصوصية الجغرافية والبشرية وطبيعة الموارد وثرائها والمكانة المحورية بين مجمل الكون.
– حركة المقدسين والتي أمتدت من أول هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض في هذه البقعة وهو ما يتفق عليه معظم الباحثين مرورا بالنشاط المقدس لمعظم الأنبياء والأولياء والأئمة الذين أكد التاريخ المتفق عليه تواجدهم على هذه الأرض كما هو الحال في الرحلة الأبراهيمية والنشاط العلوي ، وحتى التأريخ الأسطوري يقدم حكاية حراك مقدس على هذه الأرض المميزة ،وقد أعطت هذه الحركة إلى العراق (الخصائص القدسية).
– ديناميكية الفكر وحراك الوعي وهو نتاج عن العاملين السابقين ،إذ تميز العراق بخصوصيته في مجال حركة الوعي والعقل ونتاج الافكار والجدل العميق الذي تناول الأسئلة الكبرى وخلف إرثا وتركة معقدة في هذا الجانب ،فأعطت تلك الديناميكية إلى العراق (السمة الثقافية) .
– الحوادث والمجريات ذات الأبعاد الكونية الكبرى،فهذه الأرض كانت عبر التاريخ مسرحا لأعظم الأحداث في تاريخ الأنسانية القديم والحديث ،بدء من حكايات الحضارات الأولى مرورا بالمسيرة الإبراهيمية ،فصراع علي (ع) مع خصومه ومظاهر دولته ،وكربلاء وعاشوراء التي تمثل أهم حدث محوري في التاريخ الإنساني ،ثم الأحداث التي جاءت بعد ذلك ،بل وحتى على مستوى الحوادث والوقائع المستقبلية ،كما هو الحال في الإتفاق أن مسرح نشاط العود المهدوي سيكون من العراق وستنطلق رحلته منه إلى العالم كله ،وقد أعطت هذه الحوادث والمجريات إلى العراق (المكانة التاريخية) .
هذا الإرث التراكمي الذي تشكل من تلاقي الإرادتين (الربانية) و(الإنسانية) أوجد نسخة متفردة بكل ما يعني التفرد هي (العراق) إلا أن المفجع في الأمر يتمثل في الغفلة والجهل عن هذا التفرد من أهله على وجه الخصوص وإلا فإن معظم أعدائه وخصومه ملتفتون لهذه الخصوصية وهي ما تحرك فعله العظيم من الكيد لهذه الأرض عبر التأريخ ،فبحسب البحث والمتابعة لا نجد له ظهورا جليا قائما على الحجة والبرهان إلا في (بعض النص الشيعي الصحيح) في إشارتين لخصوصية ماضيه عبر بلورة كربلاء كخلاصة للمكان والزمان الممثلة لأوحدية الحدث الفاعل في كل مجالات الحياة،والإشارة الثانية المتعلقة بالربط بين خلاص العالم عبر العود المهدوي والعراق بوصفه محله وأرضه ومنطلقه ومسرح تنفيذ أهدافه.
الغريب إن ورثة هذه الأرض والذين نعرض لموقفهم بحسب خصوصيتهم الدينية ساهموا بشكل منظم وبجهد متواتر في طمس هذا التفرد والأوحدية ،فسنة العراق ينخرطون بـ “وعي أو دون وعي” في مؤامرة أن العراق (جزء من الامة العربية ) وهي مقولة (خبيثة) لا تعني في جوهرها أن وحدة الأنتماء بين هذه البلدان هي اللغة والقومية وإنما تستهدف أن يكون العراق جزء من هذا النسق التقليدي البسيط والفاقد لكل معالم التفرد ،وأن العراق لا بد “أن يتقزم ” ليكون “غير شاذ” عن الباقي العربي (وهنا لا أتحدث عن فوقية إستعلائية للبشر فكلنا لآدم وآدم من تراب وإنما أتحدث عن خصوصية تفردية تتعلق بأهداف ومصالح ربانية عليا ونتاج إنساني خاص متطابق مع تلك المصالح ) ،وأن سنة العراق بـ “وهم” لا يجدون لأنفسهم حصة في الخصوصية العراقية القائمة على “المقدس” و”الحراك التاريخي” لذلك لا بد أن يكون عراقهم من جنس الواقع العربي وهو (بحسبهم) يمتلك تميزه ضمن هذا السياق والمجموع.
وأما معظم الشيعة بناء على القرن بين (العراق) و (العروبة) والتي تساوي في أذهان الأغلب أنها القرن بين (العراق) و (التسنن) فإن النسخة العراقية هذه ضلت عبر التاريخ في أختطاف مستمر ما بين أحتلالات قبيحة، مرورا (بأموية) و(عباسية) لا تمثل (فردانية العراق) على المقاس الشيعي ،ويتواصل هذا الأختطاف في احتلال عثماني ثم في دولة حديثة تقوم على معادلة مفادها أن (العروبة) تساوي (التسنن) ،والذي يعني في العمق (إشكالية شرعية الإنمتاء) للأغلبية في (خطيئة إتهامهم) بالتبعية لآخر خارج الحدود والتي تساوي إفراغ العراق من (جوهر فردانيته) المرتبطة بخصوصية المكان والسكان،فإنهم لم يعد يعنيهم الدفاع عن هذه (الفردانية) وصار العراق مضافا إلى (آخر) كمعادل ضروري للإستقواء بديلا عن (عراق مختطف) وإن ضاعت بذلك فردانيته وتميزه.
أما المسيحيون وغيرهم من أتباع الأديان الأخرى فهم يتمسكون بنسخة “عراق” قائمة على مركزية وجودهم المحدود فيه مع “تخيل خصب” يسحب هذا الوجود المحدود ليجعله تمام الخارطة والتاريخ العراقي ،الأمر الذي يعني بمستوى من المستويات “عراق مختطف” منهم على وفق حكايتهم و”عراق مختطف ” من قبلهم على وفق قراءة موضوعية لكل عوامل التميز والفردانية العراقية ،وبالتالي فهم زاهدون بنسخة “الواقع” وحارمون للغير من نسخة “الماضي”.
يتحدث الكثير من النخبة بأفتجاع عن (ضياع الدولة) ويتحدث آخرون أكثر عمقا وأبلغ إفتجاعا عن (ضياع الأمة) ،ولكنهم جميعا لا يدركون أن الفجيعة التي ليس مثلها فجيعة تكمن في ضياع الفردانية العراقية من خلال الزهد أو التفريط أو العمدية التي تتنازل في (الإحساس والخطاب) عن خصوصية العراق التي ميزته عن كل بلاد الدنيا.
فالعراق اليوم إما “مدجن” ضمن نمطية عربية عادية وتافهة في بعض صورها بحسب (إرادة معظم السنة) أو ضعيف مستجير بجوار إيراني يشترط فوقيته التاريخية والواقعية بحسب (إرادة بعض الشيعة) أو متأبط تحت جناح تركي يعامله كفرخة جائعة وفقا(لإرادة بعض السنة) أو ضيعة سخية بين يدي الإرادة الأمريكية والغرب يفعلان به ما يشاؤون وأن هذا الفعل هو الصلاح والخير العظيم لهذه الأرض وأهلها بناء على (إرادة معظم فاقدي الإحساس بالإنتماء أو الزاهدين فيه أو المتعالين عليه).
حكاية العراق تشبه حكاية رجل حكيم ذي وعي وبصيرة وسيرة طيبة ومواقف مميزة وتاريخ مشرف وثروة وافرة تزوج من سيدة كريمة ذات حسب ونسب وجاه ومال وعفة وجلال وقد شاء القدر أن يولدا ولد وبنت ،فالولد جبان هياب بخيل تافه وشره في المأكل والمشرب والبنت وقيحة الخلق قليلة الحياء مشغوفة بالمظاهر والمال والبذخ ومنكبة على الشهوات ،فضاع تراث الوالدين نهبا بين هذين الوارثين.
وهنا لا بد من بيان أمور تقطع الطريق أمام من يهيء نفسه كقنفذ تقنفذ ليماري بالألفاظ تجاه ما تمت الأشارة إليه ،فهذا النص لا يؤمن بالشوفينية ولا بالنرجسية ولا ينتسب إلى الغرور والتعالي ،ولا يمس البشر كأفراد في كل الارض، فلكل أنسان حظه وحقه من الكرامة والقدر ولا يدعي أن العراقيين هم أفضل الخلق وأعلاهم رتبه،وإنما يتحدث عن العراق كخصوصية تفردية لهذا المكان والبلد المحاط بعنايات خاصة لأهداف ربانية عليا ،كما أن المثال أعلاه لا يعني أن المشار إليهم سكان العراق وهم إما مثال لذلك الولد أو تلك البنت ،بل المقصود بالتمثيل محل النظر هنا إشارة للوارثين الذين وضعوا أنفسهم في (صدارة الحديث والنيابة عن العراق وتاريخه وخصوصيته) والذين أعلنوا أختزال العراق فيهم سواء من خلال أحتكارهم للسلطة أو للموارد عبر تاريخ العراق وبضمنهم كل المتواطئين مع هذا الحال.
ختاما يعلن هذا النص دعوة مفتوحة لـ “بلورة وتعزيز وتكريس وتعميق ورفع فردانية العراق” كـ “شعور عميق في النفوس بمثابة الهوية المميزة وكمحرك لفعل تاريخي انساني يستهدف إعادة المكانة المختطفة والمضيعة والمزهود بها لهذه الارض المميزة وكمنطلق في العلاقة مع الآخر التي تتسم بالشعور بالكرامة والعزة والإباء” ،ويرى أن هذه المهمة مقدسة لازمة بالمنظورين الديني والدنيوي وأن تأخر تداركها يعني بقاء العراق في حيرته وألمه ،وأن أي نسخة يتصور البعض (جهلا أو عمدا) أنها يمكن أن تكون خيرا له فهي حماقة لا بعدها حماقة، وأن أسبقية إعادة التفرد العراقي تتقدم على أسبقة إعادة الدولة والأمة.