23 ديسمبر، 2024 8:45 ص

(150 م) مساحة الانتماء للعراق

(150 م) مساحة الانتماء للعراق

حين استطاع الامريكان احتلال بغداد عام 2003 تفاجأ الجميع من قصر المدة التي لم يكن احد يتوقعها لانجاز مهمة الجيش المحتل والتي كان قادة البنتاغون  انفسهم  يتوقعون  ان تستمر العمليات القتالية العسكرية المواجهة لهم  الى ستة اشهر .
اثيرت  التساؤلات لماذا ترك الضباط والجنود العراقيون مواضعهم والقوا اسلحتهم وتركوا ساحات القتال ؟؟؟
لماذا استمرت مقاومة الجيش العراقي في الحرب الامريكية الاولى عام 1991 اكثر من 45 يوما رغم ان الامريكان لم يكن من اهدافهم احتلال العراق بل تحرير الكويت واخراج الجيش العراقي منها وبالحتم فان الدفاع عن الوطن اهم بكثير من الدفاع عن ارض محتلة !!
ثم توالت الاسئلة المحيرة بعد ان (حوسم ) ابناء الوطن وطنهم وسرق السارقون بلدهم . .
ايعقل ان يسرق مواطن وطنه وينهب الابن ممتلكات اهله ..؟!
هل يمكن ان يسرق عراقي (العراق ) ؟؟
في اواخر الثمانينات زارني احد الاصدقاء العراقيين  المقيمين في خارج العراق  لاكثر من عشرين عاما ولان الرجل كان يتوق لرؤية معالم مدينة بغداد  فقد اخذت اجول به في شوارعها ومتنزهاتها وحدائقها وفي مرة كنا نقف على ضفاف نهر دجلة وفي يد كل منا علبة عصير وما ان انهيت شرب عصير علبتي حتى رميت بها الى النهر فاعترض صاحبي ممتعضا واستنكر فعلي وحين استقللت قيمة اعتراضه رد علي
( يا اخي هذا النهر نهر العراق بلدك كيف توسخه بهذا الشكل انا عشت هناك عشرين سنة ورغم اني مقيم فيه احسست انه وطني ولا افعل ما تفعل لان انهارذاك البلد لمتعتنا وراحتنا واستجمامنا ويكفي ساعة تجول فيه لتنسيك هموم الدنيا ومتاعبها ) حينها كان ردي في داخلي ولم اكن اجرؤ على البوح به امام من هو اقرب الي من صاحبي هذا
(نهر دجلة مو لاهل بغداد  نهر دجلة مو للعراقيين بل لصدام وعائلته وشوف قصورهم ومزارعهم وزوارقهم يكدر اي عراقي يقف لمجرد النظر ام انه سيعتقل في الحال )
شعور الانتماء الضعيف الى دجلة التي من المفروض انها تمثل وطني وعراقيتي كان في داخلي ضعيفا وتائها وانطلاقا منه كان عدم مبالاتي بالنهر ونظافته .
بعد هزيمة العراق في (ام المهالك ) وفرض الحصار الاقتصادي على الشعب العراقي المضطهد بدات معالم فقدان الحس بالانتماء الى الوطن تكبر وتتعاظم صحيح ان محق الانتماء الى الوطن في نفوس العراقيين بدأ منذ وقت مبكر من ثمانينات القرن الماضي بل منذ ان استولى البعثيون على الحكم حين صار الانتماء الى البعث اهم من الانتماء الى الوطن والانتماء الى العائلة الصدامية ارقى من عراقيتنا والاحتماء بالسلطة اهم من الاحتماء بالوطن الكبير لكن هذا الاحساس ترسخ اكثر في التسعينات حين اصبح العراق يختزل بالقائد الضرورة وثروات العراق ملكا للعائلة الحاكمة فقدنا الانتماء حين كان الجوع والمرض  يعتصر بطون اطفال ونساء وشيوخ العراق وكان الرفاق يحتفلون بعيد ميلاد قائدهم  بحفلاتهم المليئة بانواع الطعام والشراب والذبائح
حين كانت لقمة العيش الصعبة تستعصي على الرجال الاشداء الكادحين من فجر الله الى ليله وكان ابناء صدام ورفاقه  يتاجرون بالعملات والذهب وينفقون الملايين في صالات الرقص والقمار
حين كنا نرى النساء قاب قوسين او ادنى من بيع الاعراض بعد ان بيعت اغراض البيت واثاثه وابوابه وشبابيكه وحديد سقفه  وحتى (بلكات ) الكهرباء وكان صدام يبني قصورا فارهة ارضياتها من المرمر الايطالي
ابوابها من الخشب الهندي واقفالها من الذهب الخالص حين فقد العراقيون امانهم وصارت كرامتهم مستباحة وعراقيتهم مثلومة صار الانتماء الى الوطن مفقودا .

حينها صار  العراقي يقف امام كامرات التلفاز ملوحا بجنسيته بعد فراره من العراق ووصوله الى بلاد المهجر صائحا (من يشتري جنسيتي بعشرة دولارات ؟؟؟ )
ثم حين لايجد من يلقي بالا لها يطيح بها تمزيقا كانه يمزق انتماؤه لوطنه وتبعيته لتربته 
فالانتماء هو من يجذر الولاء  في النفس وهذا امر فقده الكثير من العراقيين لان صدام كان يريدهم ان ينتموا اليه كعبيد مسلوبي الارادة خاضعين لاهواءه بالجبر او بالرضا باللين او بالقوة وبالتاكيد هذا ليس انتماءا بل استعبادا
والمصيبة انه ربط تلك العبودية بالوطن وجعل كل الثائرين على عبوديته الرافضين لطغيانه خونة للعراق خونة للشعب وبالتالي خونة للانتماء !
كل هذا هو الذي جعل ضباط وجنود العراق يتركوا ساحات القتال ضد المحتل !!
كل ذاك الذي مضى هو من جعل العراقيين (يحوسمون ) ويسرقون وطنهم
تسال احدهم (ليش مو هذا وطنك ؟؟) يجيب (هذي حصتي من الوطن …. من النفط  … من العراق )
نعم صدق الامام علي (ع ) حين قال : الفقر في الوطن غربة
الفقر والحرمان والظلم والاضطهاد والذل تقتل  الوطنية وتغتال الانتماء للوطن  ! بل وتولد الكفر بكل مقدس ومحترم في نفوس الاسوياء .
فقراء العراق وهم اكثر من ثلثي شعبه غرباء في هذا الوطن كما قال امير المؤمنين (ع )
فحين يستعصي على الفقير دفن موتاه في مقبرة (السلام ) في النجف الاشرف لان سعر ارض الدفن تصل الى مليون دينار وحين يسكن الفقير العراقي في ارض (حواسم ) جدرانها من التنك وسقفها من الجنكو وهو مهدد في كل لحظة وساعة باخلاء الارض لان الدولة تريد ان تقيم عليها (مول ) تجاري يتكون من عشر طبقات !!!
 وحين تطارد (بسطيته ) التي يرتزق منها بدنانير معدودة  موظفوا  البلدية ومعهم قوة مدججة بالسلاح والعتاد وكانه احد قادة الارهاب
وحين يوقف سائق التاكسي عن عمله ثلاثة ايام في الاسبوع لان رقمه (فحص مؤقت )
وحين يعزف مرضانا عن مراجعة الطبيب لانه لايملك اجرة معاينة الطبيب ووصفة الدواء التي تبلغ عشرات الالوف
وحين يصيب الفقر والحرمان فينا كل مقتل حينها لا تنتظر من الفقراء الا شعورهم بالغربة في وطنهم والتنصل عن انتماؤهم ووطنيتهم .
(انا مو عراقي لان ماعندي بالعراق شبر )
جملة طالما سمعناها من العراقيين منذ ان انطلق لسان الفقراء من حبسه بعد عشرات السنين من سجنه الشديد
وهي تعبر خير تعبير عن رفض الانتماء الى اللاشيء
فهل يصح الانتماء الى اللاشيء ؟؟؟
ربما ستنجح الحكومة (ان صدقت ) ان تعيد بعض هذا التنصل عن الانتماء والوطنية حين تنفذ قرارها بتوزيع قطع الاراضي السكنية على فقراء العراق ليصبح للعراقي (150 م ) من الوطن تمثل مساحة انتماءه للعراق
ربما واتمنى ان تصدق بوعودها لانها اول الخطوات لبناء الوطنية والانتماء الذي  فقد من  نفوس العراقيين !!!