كل حدث تاريخي حينما يراد استكشافه لا بد وأن تُأْخَذ كل حيثياته وكل المدخلات التي لها علاقة وارتباط به, وأن يسعى من يكتب أو يبحث في حادثة أو حوادث تاريخية أن يتجرد من كل الميول والاتجاهات –وهذا غير متحقق غالبا- إن كان طالبا حقيقا للحق والإنصاف.
المشكلة إن أغلب ما يأتينا من التاريخ هو أما مكتوب عن طريق الأشخاص الفاعلين والمؤثرين في الحدث, أو عن طريق مذكرات شخصية لأفراد عاصروا الحدث وعايشوه, وهؤلاء الأفراد أما يعتريهم النسيان أو الاشتباه أو يكتبون طبقا لاعتقاداتهم وما يؤمنون به أو استنادا لخليفات ايدلوجية.
الحديث عن تاريخ العراق الحديث منذ الاحتلال البريطاني وتشكيل الملكية مرورا بانقلاب قاسم ورفاقه أيضا لا يخرج عن هذه القاعدة, ورغم قرب وقوع هذه الأحداث ووجود أشخاص عايشوا الحدث إلا إن المد الثقافي والايدلوجي والترهيبي في هذه الفترة جعل كثير من الحقائق أما أن تُحرف أو تُغَيب عمدا.
الحديث عن الملكية يعني الحديث عن الشجون, وعن المأساة العراقية الكبرى, فالعهد الملكي ليس مثاليا كما يحاول أنصاره إظهاره, بل كان حكما فوضياً وطائفيا وتمييزيا وعنصريا, عبث بالنسيج الاجتماعي أكثر من عبثه بمقدرات البلد.
لقد كان النظام الملكي نظاما فاسدا, حصر مقدرات المملكة بيد أفراد وعوائل لا تتعدى أصابع اليد, وهؤلاء المجتمعون جسدا كانوا متفرقين فكريا وسلوكيا.
لقد كانت الملكية موغلة باذلال الشعب العراقي, فلم تهتم بتعليمه وتطويره وتحسين مستواه المعيشي او الصحي أو البيئي, فقد كان أكثر من 80% من الشعب العراقي أميا, فيما كان الواقع الصحي مزري, وقد كان معدل عمر الفرد العراقي 28 الى 30سنة, ولولا ارتفاع الولادات لانقرض الشعب العراقي كما يقول الدكتور ليث الزبيدي في كتابه عن ثورة تموز, ويقول لونكريك “كان معدل وفيات الاطفال ما يزال مرتفعا بشكل يدعوا للأسى”, كما إن أربع أخماس العائلات العراقية بلا أملاك.
كما إن أفراد الطبقة السياسة كانوا من المبتزين والفاسدين, فقد استولى ياسين الهاشمي وعبد الرشيد الكيلاني مثلا على أراضي الحكومة وصاروا من كبار الاقطاعيين, فيما كان الفاسد نوري سعيد قد أخذ الرشى من شركة نفط العراق, وكذلك كان إبنه صباح معروفا بفساده.
بيع المناصب وخصوصا الأمنية كان على اشده في العهد الملكي, ومما ذكر في ذلك إن علي حجازي مدير الشرطة العام كان يضع مراكز الشرطة بالمزايدة, ويمنحها لاكثر الدافعين من المفوضين والمعاونين, وكانوا يضعون ابرياء تحت مقاصل الاعدام بدلا من المجرمين الحقيقين.
وقد كانت العلاقات الخارجية سائرة بنفس النهج من الفساد, حيث يذكر إن وزير الخارجية ناجي الأصيل ذهب للتفاوض مع شاه ايران حول الحدود, وقيل إنه تساهل في ذلك لقاء منافع شخصية, وكذلك الحال حدث مع السعودية ووزير خارجيتها عبد الله بن سعيد ومسؤول ملف ترسيم الحدود مع العراق, والذي وقع بروتوكول العقير مع الحكومة العراقية, وتحول فيما بعد بإرادة نوري سعيد غلى وزير خارجية للعراق وتحول اسمه الى عبد الله الدملوجي.
الطائفية كانت على أشدها في العصر الملكي, وكان نوري السعيد وصهره جعفر العسكري والأخوين ياسين وطه الهاشمي رواد الحركة الطائفية في العراق, وهم من منعوا اغلب المشاريع في جنوب العراق وحادثة مشروع الغراف الشهيرة خير دليل, حينما أصر نوري سعيد وجعفر العسكري أن يتم تنفيذ مشروع الحبانية الاروائي ويترك مشروع الغراف, لكن ضغط السيد عبد المهدي المنتفكي وإصراره جعل الملك فيص الاول يرضخ ويطلق عبارته الشهيرة لا مشروع قبل الغراف, كما إن عمليات الفرات الاولى والثانية في زمن ياسين الهاشمي عام 1935 والتي تم فيها ابادة عشائر الرميثة والفرات الأوسط وقصفهم بالطائرات.
كلام كثير حول الملكية وفسادها وطائفيتها, ولا يخفى ما قلناه على الباحث اللبيب الطالب للحقيقة, وإن توفقنا سنكتب في مقال آخر إن شاء الله عن أسباب سقوط الحكم الملكي في العراق.
أما ما جاءت به ثورة 14 تموز لم يكن احسن حالا مما جاءت به الملكية, فالأمية كانت منتشرة, ولم تبني الجمهورية الجديدة مدارسا, بل افتتحت المدارس التي باشر بتنفيذها مجلس الاعمار الملكي, وقد كانت المدارس التي افتتحها قاسم أغلبها ذات رقعة جغراقية معينة, حيث تم بناء 77 مدرسة في لواء الموصل, و25 ديالى, و25 في أربيل و31 في بغداد و25 في الالوية الاخرى.
كما إن المشاريع لم تشهد طفرة كبيرة في زمن من عُرِفَ بالزعيم, فقد كانت فترته فترة صراع بين التيار القومي والتيار الشيوعي, ولعب قاسم على الحبلين حيث دعمه القوميون في إنقلابه ظنا بقوميته, فيما أظهر ولاءه الشيوعي عند تسنمه للحكم, وكان تأثير التيارين واضحا جدا في خصومتهما وتهافتهما للحوز بالمناصب, وما شهده تكليف وزير المعارف وتسمية رئيس جامعة بغداد خير مثال على هذا الصراع (يمكن مراجعة بحث سياسة التربية والتعليم في عهد عبد الكريم قاسم واثرها على النظام التربوي في العراق (1958-1963) للدكتور احمد جوده جبار).
كان عصر قاسم عصر تغيير الخريطة العسكرية مناطقيا, فبدأ انحسار دور ضباط الموصل والكورد الذين كانوا يقودون الجيش, ليحل محلهم الضباط التكارتة وأبناء الغربية.
لم تتحسن الأحوال المعيشية للعراقيين في ظل حكومة قاسم, وخصوصا أبناء الجنوب, أما ما يُذكر من إن قاسم بنى مدينة الثورة (مدينة الصدر حاليا) والشعلة فهو محض وهم واشتباه, فالحقيقة هي إن قاسم قد ضاق ذرعا بالجنوبيين “الشيعة” الذين بدأوا يزحفون على بغداد, وانتشروا في مناطق الكرادة وأطراف الاعظمية في الرصافة والوشاش والشاكرية في الكرخ, وهذه المناطق كانت تعرف بانها ثقل “البغادة” الاصليين, وبما إن الجنوبيين أخذوا يحوزون على موطئ قدم في سوق العمل, واتجهوا لتعليم أبناءهم, فقد شعر قاسم بخطرهم, لذا عمل على خطته لإبعادهم عن بغداد, فأعطى لأهل الصرائف قطع اراضي في الثورة والشعلة بمساحات مخنوقة لا تتجاوز 140م2, وبتصميم عمراني خانق “أمني” على شكل أزقة ودرابين ليسهل السيطرة عليهم, والحقيقة استغرب ممن يعد هذا انجازا لقسام, فالحقيقة إن قاسم رماهم في منطقة تعد نائية “في تلك الفترة” ولم يعطهم لا قروضا ولا أموالا للبناء, بل عادت الصرائف وبيوت الطين في تلك المنطقة, وأُبعد الجنوبيين عن مراكز اعمالهم في قلب بغداد, بينما اعطى قاسم بيوتا وأراضي بمساحات ما بين 600 م2 و1000م2 مربع لضباط وذوات من المناطق الاخرى.
كما إن الاصلاح الزراعي الذي يتبجح به النظام القاسمي قد جعل الاراضي بوار, فصار عائد ما يجنى من الاراضي لا يسد الكلف التشغيلية والجهد والإنتظار, لأنه اعطى دوانم قليلة للمزارعين (1000 دونم لاراضي سقي السيح و2000 دونم لاراضي سقي المطر) في ما وضعت الدولة يدها على بقية الاراضي.
بنفس الوقت شهد عهد قاسم مجازر دموية كثيرة, ومحاكمات صورية تجلت في محكمة المهداوي, وأيضا كانت العلاقات الخارجية في وضعٍ متدنٍ جدا, رغم إن النظام القاسمي مد يده لأمريكا لتكون شريكا ستراتيجيا له بديلا عن بريطانيا والتي استشعرت الامر فكانت احد اسباب اسقاطه, فقد كانت المشاكل مع الجوار العراقي ومع دول الإقليم على أشدها وابرز صورها المشاكل مع الكويت ومصر.
وهنا تطرق أحد الباحثين في التاريخ لسؤال مهم وقال اسأل من يمتدحون قاسمه ماهي المشاريع التي انجزها في الوسط والجنوب خلال فترة حكمه؟!
ملاحظة أخيرة, إن الاعلام لعب دوره في تزييف تلك الحقائق وقلبها بشكل ورديٍ, فقد كان الارستقراطيون والاقطاعيون يعتبرون حكم الملكية نظاما مثاليا تكامليا, وكتبت اقلامهم بهذا الاتجاه, كما ان رؤساء الصحف وكبار موجهي الراي العام قد تم ادخالهم ضمن المجلس النيابي خلال فترة الثلاثينيات فكانت الحركة كبرى في تزيين وجه الملكية, كما ان القوميين رغم انتهازهم الفرصة وحصولهم على حكم العراق, إلا إنهم دسوا بعض المدح للحكم الملكي, وذلك للطعن بعبد الكريم قاسم الذي غير ذلك النظام, وكذلك ليحسنوا صورتهم بأنهم أعادوا الأمور إلى نصابها, أما الشيوعيون فقد مارسوا “التبويق” الإعلامي لتزيين الفترة القاسمية, خصوصا إن كثير من مثقفي تلك الفترة من شعراء وكتاب كانوا يعتنقون الفكر الشيوعي.