عشية الذكرى السابعة والستين لحركة 14 تموز في العراق، يُعاد الجدل السنوي حول ماهية الحدث ثورة أم انقلاب؟ وحول حصيلته ايجابية أم سلبية؟، ومهما يكن من شيء فإن هذا الحدث أدى لتغيرات جوهرية في شكل وبنية النظام السياسي في العراق ولم يقتصر الأمر على التحول الشكلي من الملكية للجمهورية.
أولى هذه التحولات تمثلت في تغيير طبيعة النخبة السياسية المتحكمة في العراق من نخبة خلاسية عسكرية/ مدنية ارستقراطية في الزمن الملكي إلى نخبة عسكرية بحتة في زمن العراق الجمهوري، فالطبقة السياسية في الزمن الملكي كانت خليطا من أبناء الأسر والبيوتات التي كانت لاتزال تحتفظ ببقايا نفوذها الموروث من الحقبة العثمانية فضلا عن بعض الضباط الذين انحازوا لثورة الشريف الحسين بن علي، أما نخبة العهد الجمهوري اللاحق فكانت في مجملها من الضباط المحليين، ويمتد هذا التغيير ليشمل طبيعة التفكير والميول الفطرية المتباينة بين الفئتين.
ويمكن في ذات السياق الانتباه لكون هذا التغيير تم عبر التحول من نخبة سياسية مدينية في مجملها في العهد الملكي إلى نخبة عسكرية ريفية بحتة، ولهذا يجري في بعض الأحيان الإطراء على 14 تموز بوصفها ثورة الطبقة المهمشة على الطبقة المسيطرة والمستغِلة والمتواطئة مع السلطة، غير أن هذه الصورة ستشهد انعكاسا مثيرًا في حقبة ما بعد 2003 حين تبرز النوستالجيا للحقبة الملكية ويجري تصوير الأمر على أنه انقضاض الضباط الريفيين الجاهلين بأمور الحكم والمتعطشين للسلطة على النخبة المتحضرة التي كانت تريد للعراق مسارًا مختلفًا عن الذي سار فيه.
والمظهر الثالث من مظاهر التحول التموزي هو تغير الوضع السياسي للعراق من دولة لها علاقات طيبة مع الغرب ولا تميل للصِدام معه إلى دولة تتبنى الشعارات المناهضة لما اصطلح على تسميته حينها “الامبريالية الغربية”، فبعد 14 تموز تغيرت العقيدة السياسية للنظام العراقي لتتخذ نهجًا مناوئًا للمنظومة الفكرية والاقتصادية للغرب واستمر الحال لغاية لحظة 2003، حيث نهاية الجمهورية الأولى!
في حقبة ما بعد 2003 جرى الخلط ما بين الأمرين، فمن جهة هناك إدراك تام من الطبقة السياسية بأن النظام الجديد (الجمهورية الثانية)، وليد فعل غربي ويحظى برعايته مع بروز نزعة داخلية متبرمة من هذا الارتباط وتحاول الانضواء تحت جناح المحور الإيراني من جهة ثانية، ولا يدخر أهل هذه النزعة جهدًا في اظهار النظام السياسي بمظهر المناوئ للغرب وسياسته، أي إن هذا النظام يجمع في ذات الوقت النقيضين اللذين وضعت 14 تموز حدًا فاصلًا بينهما، موالاة الغرب قبلها ومعاداته بعدها.
هذا التبرم من شكل وبنية النظام، الذي يغلب على تفكير معظم القوى السياسية المتنفذة في عراق اليوم يُجسد أزمة النظام السياسي في العراق الحديث منذ 1921، فالنظام الملكي تأسس كحل لمشكلة غير محلية في سياق رغبة الإنجليز بتعويض فيصل الأول عن الخسارة التي مُني فيها في سوريا، ورغم أنه بُني على أساس الملكية الدستورية إلا أن الواقع شهد انتكاسات كثيرة لهذه الديمقراطية المستجدة التي تحولت في بعض الأحيان لمجرد عنوان بلا مضمون حقيقي، لكنها على أية حال قد فسحت المجال لمساحة من الحرية لم نجد لها نظيرًا طوال الجمهورية الأولى. وهذا لا ينفي أن النظام الملكي قد وصل في نهاية المطاف لمرحلة فقدان القاعدة الشعبية بشكل تام بحيث أن 14 تموز في بدايتها كانت تحظى بالدعم الشعبي الجارف، ولم يشهد العراق محاولة حقيقية واحدة لإعادة الملكية ولم تواجه الجمهورية الجديدة أي خطر جماهيري من انصار الملكية الذين سرعان ما اضمحل دورهم، لتبدأ في العراق حقبة جديدة من الصراعات الدموية بين العسكر انفسهم.
وقد تم الغاء عطلة 14 تموز من قانون العطل الرسمية في العراق، الذي صدر العام الماضي، ويُفهم من هذا الإلغاء عدم اهتمام القوى السياسية الدينية المتنفذة بهذا الحدث الذي لم يكن لها دورٌ فيه، وأنها في إطار سعيها لبناء سردية جديدة لتاريخ العراق لحديث اسقطت 14 تموز من حساباتها رغم دوره المركزي في هذا التاريخ!