في مثل هذه الأيام من كل عام، يعود الجدل القديم-المتجدد حول يوم 14 تموز 1958، الحدث الذي غيّر وجه العراق إلى الأبد. وقد سبق أن كتبتُ مقالًا في العام 2017 تحت العنوان نفسه، حاولت فيه أن أُحرر النقاش من الثنائيات المتصلّبة وأن أضع الحدث في سياقه الواقعي، بعيدًا عن التهويل الثوري أو التشويه الملكي. واليوم، وبعد مرور أكثر من ستة عقود، ووسط الأزمات التي يعيشها العراق، يبدو من الضروري أن نعيد قراءة ما جرى، لا لمجرد التذكير، بل لفهم جذور المأزق العراقي الحديث.
لم يكن انقلاب 14 تموز مجرد انتقال سياسي عابر من الملكية إلى الجمهورية، بل كان إعلانًا صاخبًا عن دخول العسكر إلى المشهد السياسي العراقي من أوسع أبوابه. انقلابٌ دموي هزّ بغداد، وأنهى حقبة كاملة بكل ما فيها من دستورية، ونُبل، وتجربة برلمانية، كانت لا تزال في طور التشكل، وإن لم تخلُ من عيوب.
لقد رأى البعض في عبد الكريم قاسم رمزًا للتحرر الوطني، وبطلًا كسر قيد التبعية البريطانية، لكن الوقائع سرعان ما أثبتت أن ما حدث لم يكن ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل نكسة سياسية وأخلاقية، فتحت أبواب العراق لرياح الاستبداد والانقلابات المتعاقبة.
في تموز ضاعت التجربة الديمقراطية الوليدة. وضاع التوازن الدستوري الذي بدأ يتكرس منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921. وضاعت القيم المدنية، وتحوّل العراق من بلد يُدار بالقانون إلى بلد تُدار فيه السلطة بالبندقية.
وأهم ما ضاع، هو فكرة “الشرعية”، فقد بات الحكم من يومها يُنتزع بالقوة لا يُؤسَس بالإجماع، ويُحكم بالغلبة لا بالعقل. كان ذلك اليوم إيذانًا بانتهاء دولة القانون وبدء دولة الانقلابات والشعارات والدم.
لا يمكن أن نفصل ما جرى في تموز 58 عن سياقه الإقليمي والدولي. كانت الحرب الباردة في أوجها، والتجاذبات بين القومية العربية والتقليد الملكي الليبرالي حادة. وكان العراق – بما يملك من ثروة وموقع – ساحةً مثاليةً لتصفية الحسابات.
ولعل أحد أخطر ما في الحدث، هو أن بعض القوى الدولية والإقليمية لم تكن متضررة تمامًا مما حدث، بل ربما كانت جزءًا من ترتيبه أو استثماره. وهنا تتضح حقيقة مرة: العراق لم يكن منذ تأسيسه ساحة سياسية مستقلة، بل دائمًا جزءًا من خرائط النفوذ.
لا شك أن النظام الملكي لم يكن مثاليًا، وكان يعاني من فساد سياسي ونخبوي وتبعية للغرب، لكن علينا أن نتساءل بإنصاف: هل كانت السنوات التي تلت الانقلاب أكثر عدالةً وحريةً وتنمية؟ وهل كان حكم عبد الكريم قاسم مؤسسيًا أم شخصيًا؟ وهل فعلاً أقام دولة وطنية أم فتح الباب أمام عسكرة الدولة ثم طائفيتها لاحقًا؟
التاريخ يجيب: لا مؤسسات، لا دستور دائم، لا حياة حزبية مستقرة، بل سجون واغتيالات وشكوك وتأليه للفرد، ثم فوضى أطاحت به بعد خمس سنوات، ليدخل العراق بعدها في دوامة لا تنتهي.
ما نعيشه اليوم من تفكك، وفساد، واستقواء الميليشيات، وشلل الدولة، يمكن تتبع جذوره إلى تموز 58. ليس لأنه السبب الوحيد، ولكن لأنه اللحظة التي انقطعت فيها الدولة العراقية عن منطقها المؤسساتي، ودخلت في منطق الثورة الدائمة التي تستهلك نفسها ولا تنتج دولة.
ومن تموز إلى شباط، ومن شباط إلى تموز آخر، وهكذا تدحرج العراق من هاوية إلى أخرى، حتى وجد نفسه في 2003 مفرغًا من الدولة، ومن المرجعية الوطنية، ومن المشروع الحضاري.
قد لا نملك رفاهية الحكم الأخلاقي الكامل على ما جرى في 14 تموز، لكننا نملك – على الأقل – أن نقول:
لم تكن تلك الثورة بريئة، ولم تكن النكسة عارضة، بل كان ذلك اليوم بداية الانفصال بين شرعية الحكم ورشد الدولة.
وإذا أردنا مستقبلًا أفضل، علينا أن نتعلم الدرس الأكبر من تلك اللحظة: لا تبنى الأوطان بالانقلابات، ولا تستقيم الدولة بلا عقل مؤسسي ولا مشروع وطني واضح.
هل ترون أن الوقت قد حان لثورة من نوع جديد؟
ثورةٍ لا يُراق فيها دم، ولا يُعلق فيها الوطن على أعمدة الشعارات، بل يُستعاد فيها العقل والشرعية والإنسان.