23 ديسمبر، 2024 6:21 م

14 تموز أولى الصفحات في السجل الأسود لجمهورية العراق

14 تموز أولى الصفحات في السجل الأسود لجمهورية العراق

مما لا شك فيه أن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 تعتبر الحدث الأهم في تاريخ العراق الحديث مع احتفاظ قائدها (عبد الكريم قاسم) برمزية العفة والنزاهة والأخلاص والوطنية وعلى إمتداد تاريخ تأسيس الجمهورية العراقية ولحد الآن. فقد عُرف عنه ضابطاً وطنياً نظيفاً وشجاعاً وعفيف اللسان ولا أعتقد أن هناك من يمتلك القدرة على التشكيك في ذلك بما فيه خصومه .

مادفعني لهذه السطور ما يمر به العراق الآن من إنحدار شديد نحو هاوية المجهول التي لا يستطيع أعتى المحللين السياسيين والستراتيجيين التنبؤ بما ستؤول إليه مجريات الأحداث التي نعيشها منذ مطلع عام 2003 وحتى أيامنا الداعشية التي نعيشها الآن .

لقد جلب النظام الجمهوري الذي أرسى قواعده (عبد الكريم قاسم) بكل الويلات والمصائب التي تُصب يومياً على رؤوس أبناء هذا الوطن طيلة العقود الخمسة الماضية وكما أدليت برأئي بحق هذا الرجل و أنصفته في بعده الشخصي والأخلاقي فمن حقي أن أدون رأئي بحقه في بعده السياسي والمهني .

فمن خلال متابعتي لسيرة هذا الرجل وما سمعناه عنه من مرويات وحكايات في بعدها المهني والسياسي قد وجدته من أوهن السياسيين العراقيين ومن أضعف رجالات الدولة العراقية على مر تأريخها ، فبكل تأكيد كان (عبد الكريم قاسم) ليس بحجم الإنقلاب الذي أقدم عليه مع مجموعة من الضباط الأحرار ، خدمتهم جملة من الظروف الواقعية التي يعيشها النظام الملكي العجوز المتهالك في فترته الاخيرة على الأقدام بخطوة جريئة كالتي قام بها حفنة صغيرة من القيادات العسكرية تجهل تماماً أبجديات السياسة لتسيطر على أهم رقعة جغرافية في الشرق الأوسط وفق كل الحسابات وعلى رأسها الحسابات الغربية وبداية حقبة الحرب الباردة في العالم .

والغريب أن المتبع لأحوال التاريخ السياسي للعراق يلحظ أن الدولة العراقية هي من أفقر دول المنطقة على وجه التحديد إنجاباً لمحترفي السياسة ودهاتها ولكي أكون منصفاً فقد عقمت الدولة العراقية عن إنجاب السياسيين منذ تأسيس النظام الجمهوري الذي أتى بجهلة السياسة سواء كانوا وطنيين أمثال (عبد الكريم قاسم) أم من المتآمرين و المتسلقين والإنتهازيين وهواة السياسة أو مدعيها منذ عام 1963 ولغاية يومنا هذا ،الذي كثرت فيه معارض ودكاكين السياسة ذات البضاعة الرخيصة والملوثة .

إن ما حصل في 14 تموز ما هو إلا بداية القطر في غيث الدماء التي أمطرت ولا زالت تنمهر بشدة من سماء هذا الوطن ، فقد كانت بداية لعهود من الدماء والعنف و حز الرؤوس راح ضحيتها قوافل مليونية من أبناء العراق ومنذ خمسة عقود مضيت والى الآن، كما مثلت نقطة التحول المشؤوم لبداية حقبة مأساوية من الأنظمة الدكتاتورية المستبدة .

إنها الثورة التي شقت نهر الدم الجاري للان من خلال اطلاق يد قادتها وتشجيهم للبعض على اقامة المجازر الدموية وحمامات الدم ومهرجانات الذبح والسحل والتمثيل بالجثث واستباحة المدن واقامة واحدة من افظع المآسي في تاريخ العراق (وما اكثرها الى الان). لم تحدث مهزلة دموية بحق الآخر كما حدث من قبل زعامات تلك الثورة بحق خصومها من افراد العائلة المالكة وما جرى لهم من تنكيل وحملة اعدامات فورية وتمثيل للجثث وسحل في الشوارع كما جرى في 14 تموز . لقد اختلفنا حتى مع اقرب الشواهد منا ، فلم يحدث ما حدث في مصر بعد استيلاء الضباط الاحرار بزعامة اللواء (محمد نجيب) بحق العائلة المالكة فقد تم نفيهم وبكل احترام دون اراقة قطرة دم واحدة وهذا دليل على مدى وحشية الروح العراقية وبداوة التفكير في التعامل مع الخصم ، فمنطق العنف والدماء هو السائد على سلوكيات الفرد العراقي للاسف وهذا ناجم عن العقلية المتصحرة التي يحملها الفرد العراقي والتي نجني ثمارها السيئة الى هذه اللحظة . هذا جزء من حقيقة الثورة التي لم يبقى منها الا عطلتها السنوية وبعض الذكريات لدى كبار السن ، وبرغم كل المحاولات الخجولة للبعض في اعادة الاعتبار لهذه المهزلة التأريخية الذي مثلت حداً فاصلاً بين مرحلتين تأريخيتين في حياة هذا الشعب والتي أسهمت بشكل كبير في ضياع الهوية الحقيقية لأبن

المدينة وأبن الريف على حد سواء مما أدى ذلك الى خلق حالة من التمازج المُعقد بين الهويتين وضياع كلاهما وهذا ما اشار له الراحل (علي الوردي) في استعراضه لسمات وملامح الشخصية العراقية التي تجمع ما بين البداوة والحضارة وهو خلط معقد وتركيبة فاشلة فلا يمكن المزج بين الزيت والماء فلكل منهما خصائصه وصفاته . إن هذا المزج السيء قاد بالعراق وشعبه الى كل المأسي التي عشناها ولا زلنا نعيشها بسبب فقداننا لهويتنا الحقيقية وضياع الطبقية الاجتماعية للسلطة والشعب في آن واحد وهذه من اكبر الكبائر التي سيبقى شجها يطاردنا ويطارد الأجيال القادمة .