يحكى أن فقيرا سُلب حقه ، فذهب الى القاضي يشتكي لعله يُنصر ، ويسترد حقوقه ، فحدّث كاتب العرائض بما جرى له ، من قتل لأولاده وسلب لأرضه وإتلاف لمزروعاته ومصادرة لماشيته ، فصاغ (الكاتب) هذه الشكاية الأليمة ، بما تمرس به من أساليب لغوية تلامس العاطفة وتثير الوجدان، ثم قال له بعد أن أكمل كتابتها: سأقرأها عليك ، لترى هل أحطت بكل ما مر بك قبل تقديمها للقاضي ، فبدأ كاتب العرائض يقرأ ، والمجني عليه يبكي ، فسأله كاتب العرائض مستغربا ، لماذا تبكي ، ألم تحدثني قبل قليل بكل هذا ، قال نعم ، أبكي ، لأني مندهش كيف بقيت حيا ؟ مع أن كل هذه الكوارث قد مرت بي .
وكذلك كان حال الشعب العراقي الذي سار على طريق الآلام ، منذ الرابع عشر من تموز / 1958م ، وكان يعيش قبل هذا اليوم في سكينة وإستقرار وأحزاب سياسية وصحف وجامعات ومجلس إعمار، إذ لم يشهد العراق أحداثا دامية قبل هذا التاريخ، بإستثناء إنقلاب بكر صدقي 1936م وأحداث سنة 1941، ثم عادت بعدهما الحياة الى سيرتها الأولى ، كانت القيادة السياسية العراقية بقيادة السياسي المخضرم نوري السعيد ، تدرك التوازنات الدولية وصراع القوى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الولايات المتحدة ، وتسلمها مهام قيادة العالم بعد أن أوشكت شمس المملكة المتحدة على الأفول ، ولسوء حظ العراق الذي جنى عليه قدره الجغرافي لوقوعه بين الجاريين اللدودين إيران وتركيا ، مما إستدعى أن ينأى المحنك السعيد بالعراق من الإنحياز الى أحدهما، ويتحالف مع القوى العظمى آنذاك ( بريطانيا العظمى ) لكن تداعيات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي السابق، وقيام الدول العربية ذات التوجه القومي ، وبدء عصر الإنقلابات العسكرية ، وبزوغ نجم (عبد الناصر) وتأثيره الكبير في العساكر العربية الذين بدؤوا في التفكير بالإطاحة بالأنظمة ٍتحت ضغط حلم الوحدة العربية الذي كان مسيطرا على مخيلتهم وأفكارهم ، فضلا عن الفقر وسوء الأحوال الإجتماعية لضعف موارد العراق آنذاك ، وارتباك الأداء الإعلامي العراقي الرسمي في مواجهة تشويه وفبركات إذاعة صوت العرب القاهرية ، وشيخوخة الأساليب السياسية التي كان السعيد يسير عليها، متجاهلا ضرورات التغيير.
هذه كانت بعض محركات يوم 14 تموز الدامي ، الذي غيّر وجه العراق منذ ذلك اليوم من حكم مدني الى حكم عسكري خاكي إستبدادي ، فلم يعرف العراق الإستقرارمنذ ذلك اليوم، ولم يذق شعبه الهناء، ولاسيما في ضوء بدء العسكر يومهم المشؤوم بمجرزة قصر الرحاب ، وقتل العائلة المالكة ، والتمثيل ببعض الجثث، وإطلاق غرائز الجماهير ، وتعبئتها إعلاميا ضد مؤسسات الدولة آنذاك .
جاء العسكر الذين لم يكونوا يمتلكون رؤية سياسية أو خلفية تخطيطية ، أو نظرية تنموية ، فدب الصراع بينهم ، وأكلت الثورة أبناؤها مبكرا ، رفعت الحاج سري والطبقجلي والشواف وغيرهم ثم جاء إنقلاب شباط 1963م الذي أعقبه إنقلاب عارف على زملائه ، ثم إحتراقه في الطائرة ، ومجيء أخيه الى الحكم بقوة العسكر ، بعد أن أقصوا رجل الدولة المدني عبد الرحمن البراز الى أن حدث إنقلاب 1968م ، والى اليوم ، وكوارثنا تتناسل .
أربع وخمسون عاما مرت ، ونحن منقسمون الى فريقين متصارعين ، الأول مع الملكية الدستورية وضد الجمهورية ،والثاني مع الجمهورية وضد الفريق الأول ، فمتى يتشكل وعينا التاريخي ، ونخرج من حوار الدم الى حوار المفاهيم ، ونقتدي بالدول الناهضة كالصين التي تدرس لأبنائها تاريخ أربعة آلاف عام ، ثم يقولون لهم، إن كل هذا الذي مر معنا هو الماضي، أما المستقبل فهو شيء آخر .
لاشك أن العهد الملكي لم يكن بلا عيوب أو أخطاء ولم يكن عهد قاسم خاليا من المنجزات والنقاط المضيئة ، ولكن ماجرى في يوم 14تموز ، كان إرهاصا وتهيئة ، لما مر بعد ذلك اليوم الدامي، كالحروب والحصار ، وتداعيات الحشود الدولية التي تحالفت من أجل التغيير السياسي في 2003م .
كلما تجددت ذكرى 14 تموز ، يختلف حولها الكتّاب ، مع أو ضد ، يتنازعون رؤى التقييم ، في صورة بليدة تتكرر منتصف كل عام ، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه الى التقويم العميق وإستخلاص الدروس وطرح البدائل عبر طرح صمامات الإستقرار المؤسساتية من خلال إستثمار العقليات التي تهضم الماضي ، وتشخص الحاضر، وتستشرف المستقبل، كي لاتتكرر أيامنا الدامية.
إضاءة : التاريخ يعلم الإنسان الدروس، ويجعله أكثر وعياً ، واقدر على اتخاذ الخطوات المناسبة (عبد الرحمن منيف، روائي 1933- 2004م(