هل لبنان مقبل على جولة طويلة من الحرب الاهلية، مرة اخرى، وهل هناك من يدرك مفاعيلها، ام ان الشحن المذهبي والطائفي، وعسكرة المجتمع هي لزوم شد العصب السياسي لا اكثر؟
هذه الاسئلة لا يمكن الاجابة عليها من دون العودة الى تاريخ حرب ما يسمى 13 نيسان/ ابريل عام 1975، التي لم تبدأ في ذلك التاريخ، بل كانت شرارتها الاولى في العام 1952، وكانت بروفتها الاولى في العام 1958، فمناوشات الستة اشهر في ذلك العام، او سمي “ثورة 58″، حددت مراكز القوى الطائفية، وكانت نوعا من الرد على مناكفات تأسيس لبنان الحالي عام 1920، والدستور الهجين عام 1926، الذي انتهى اليه الفرقاء الاقوى، مما يمكن تعريفهم لاحقا انهم اطراف التسوية الثلاثية، التي حاولت قدر الامكان تغييب المكونات الاخرى، وكذلك القوى السياسية الفاعلية، حينذاك.
ما انتهت اليه بروفة الحرب الاولى عام 1958، لم يكن في مصلحة اي من الفريقين، بل ادخلت عوامل اخرى، سنجد لاحقا انها هي من يقرر شكل النظام السياسي، فيما لاقت مقاومة شرسة من الثلاثي الممسك بزمام الامور.
قبل ذلك كانت مفاعيل النكبة الفلسطينية، لا سيما التهجير على لبنان اكبر من قدرته، لكن، وكما العادة، استغلت “الشطارة الغبية” الوضع الديموغرافي المستجد في زيادة العددية، وهنا تحديدا، بدأ التوطين غير المعلن، وهو ما ساعد على تنفيذ المخطط الاسرائيلي “تذويب الفلسطينيين في الدول العربية المجاورة”، غير ان لبنان دفع الثمن الاكبر.
لا شك ان النظام السياسي القديم يتحمل المسؤولية الكبيرة عن ذلك، لانه اختار التعاطي مع القضية المصيرية الوجودية بطريقة النكيات، وليس بعقل منفتح على بقية مكونات الشعب، لان العقدة الاساس التي بني عليها، هي رئيس الجمهورية- الملك، الذي لديه كل الصلاحيات، واختار ان يكون حليفه الاول من قوى سياسية قامت على فكرة “لبنان المركز ولبنان المحيط”، فـ”جبل لبنان في عهد المتصرفية” هو لبنان، وباقي المناطق ملحقة به، وليس لها اي حقوق.
اكثر من ذلك ان المكون الدرزي الذي كان شريكا اساسيا في تكوين “لبنان المركز” غمط حقه، بينما الشريك في “لبنان 1920” اي المكون السني، اصبح تابعا، فيما الشيعي، لم يكن له اي حضور، كما تحولت باقي الطوائف الصغيرة، لا سيما المسيحية منها، ادوات شغل للنظام المتفرد بالهيمنة المارونية، ولهذا نشأت لاحقا ما سمي “الانعزالية المارونية”، التي سنرى لاحقا انها حاولت الخروج على مبدأ اساسي وهو ان جميع الشعب لهم الحقوق وعليهم الواجبات نفسها، وعملت بمبدأ “ما لي لي وما لكم لي ولكم”، فإستحوذت على المفاصل المالية والاقتصادية، ولحماية هذه الامتيازات، عملت على التحالف مع قوى خارجية معادية.
في هذا الموضع لا بد من العودة الى بداية العلاقة السياسية بين “حزب الكتائب” واسرائيل عام 1953،التي توطدت في العام 1958 حين دعمت الاخيرة القوى الحليفة للرئيس كميل شمعون بالسلاح في “بروفة الحرب ” آنذاك، عندما ارسلت طائرة ايرانية، بأمر من الشاه، لشحن السلاح من إسرائيل إلى لبنان، وهذه كانت بداية وجود السلاح غير الشرعي، الذي سيتحول لاحقا، وكما قال المرحوم جوزيف ابوخليل دعما مكشوفا، ماليا والاسلحة وذخائر، وسياسة.
على هذا الاساس يمكن تالياً قراءة ما يبنى عليه من احداث، اهمها تحقيق المطلب الاسرائيلي الاساسي، وهو شعار القضاء “على الوجود الفلسطيني”، الذي كان الهدف منه جعل المنظمات المسلحة قوة مهيمنة على الارض، اي كان هذا الشعار كلام حق اريد به باطل، لان حين تتمتع “منظمة التحرير” بقوة عسكرية، وسياسية ووجودية، فهي لن تتنازل عن ذلك بسهولة.
لهذا كانت المناوشات مع المنظمات الفلسطينية بين عامي 1968 و1973 لجس النبض، وهي كانت عملية معقدة عملت عليها تل ابيب، من اجل معرفة قدرة القوى المسلحة الانعزالية والجيش اللبناني، والمدعوم من النظام القديم، على فرض الواقع المستجد الذي يخدمها.
يومها حدث الامر المفصلي في تغيير وجهة الاحداث، اذ فرض النظام السياسي “اتفاق القاهرة” عام 1969، واحداث ايلول / سبتمبر عام 1970 في الاردن، لتعزيز الوجود المسلح الفلسطيني في لبنان، وهي الحجة التي استخدمها حلف النظام القديم، كي يبرر الافعال التي ارتكبت لاحقا، ومنها “مجزرة البوسطة” في 13 نيسان / ابريل عام 1975، كي تتحول المواجهات المتكومة حربا استمرت 15 عاما.
لقد كانت الاحداث السياسية التي سبقت هذا التاريخ مؤشرا على انزالق البلد الى الحرب، وهذه المرة “كسر عظم” كما تقول العامة، خصوصا ان القوى السياسية، لا سيما الاحزاب العلمانية، التي وجدت نفسها خارج النظام حاولت العمل على اصلاحها من الداخل، فيما قوبلت بالكثير من القمع، والتهديد بالحرب من القوى الانعزالية المتحالفة مع النظام، وعلى هذا الاساس عمل “حزب الكتائب” اولا على تحويل الصراع دمويا، خصوصا فبركة مقتل المسؤول الكتائبي جوزيف أبو عاصي على يد مجهولين، وقبلها مقتل النائب معروف سعد في صيدا، قبل ايام من ذلك التاريخ، على يد مجهولين ايضا، ما اجج المشاعر، فاستغلها “الكتائب” لارتكاب تلك المجزرة (البوسطة).
اليوم، عشية الذكرى 49 للحرب المشؤومة، تعاد الاحداث نفسها، لكن بطريقة مختلفة، لهذا فإن ما جرى خلال الايام الماضية يدخل ضمن محاولات خلط الاوراق من اجل التخفيف من ازمة الكيان الصهيوني، اي تماما كما حدث في السبعينات، لكن هذه المرة لا بد من الاخذ في الاعتبار ان مخطط بن غوريون وضع على النار كما يتحدث المسؤولون الاسرائيليون انفسهم، ، وهو ما تحاول “القوات اللبنانية” تنفيذه بغباء.
كاتب، صحافي لبناني