23 ديسمبر، 2024 6:52 ص

البناء الخارجي والداخلي للقصيدة تأسيس لثقافة القاريء

البناء الخارجي والداخلي للقصيدة تأسيس لثقافة القاريء

قراءة في شعر الشاعر حسين عبد اللطيف : ” لم يعد يجدي النظر ” و ” أمير من أور ” أنموذجآ
أن الخوض في موضوع الشعر ، كما هو معروف ، ينطوي على مسؤولية . فعند وصفه فأنه يشبه إلى حد ٍ بعيد وصف أراضي يجري فيها نهر يلتوي لمئات الأميال. فالمنظر الجوي لأي نهر أو جزيرة عائمة فوق البحر ، مثلاً، يسّر الناظر العابر من حيث الشكل الخارجي أو من حيث جغرافية الطبيعة الزاهية . لكن نظرة من يعمل في حقل الجيولوجيا إليهما تختلف كثيراً. فالذي يراه الأخير لا يراه الأول . للقصيدة الشعرية الانطباع نفسه ، فمنهم من ينظر إليها سطحياً ، ومنهم من ينظر إليها من حيث البنية والجوهر بالدلالة على السطح وهنا تعمل المفردة اللغوية فعلها مورفولوجياً Morphology

بعض قصائد المجموعتين ، مثلاً ، فيها تصوير لواقع لم تجر أحداثه في واقعنا العراقي . ففي قصيدة “المتادور” matador التي ترتكز من عنوانها على مفردة اسبانية تعني “مصارع الثيران” لتوحي لنا من حيث الشكل تخيّل البيئة الاسبانية ، إلا أن الشاعر هنا لا يسعى إلى تزيين القصيدة بها من حيث الشكل ، بل يعطيها نسغاً خاصاً في موضوع التضاد ontradictionC بين الشكل الخارجي Outside form والجوهر Inner-side Structure أي ما يخص المعنى التحتي ( = الجوّاني ) للقصيدة . فالبحر والريح على طرفي نقيض من حيث الشكل المادي وان كانا موجودين في الطبيعة إلا أنهما متشابهان من حيث الحركة اللاإرادية المستفزة في الطبيعة فيربطهما الشاعر بمفردة الثور الجريح إذ لا إرادة له غير الحركة والقلق وهي إشارة إلى أن هناك حقيقة أخرى وراء المفردة ، أنها هيمنة الإنسان ووحشيته وغروره إزاء الثور في حلبة المصارعة bullring وما تلقيه تلك الحقيقة من ظلال على البحر من دون الإنسان في الإرادة :

البحر مثل الريح

البحر لا يستريح

البحر في الساحة

قرن من القصدير

ثور جريح

متادورص12

مما يلفت النظر في منجز حسين عبد اللطيف الشعري , استخدامه الإشارات بمفردات تدل على قصص أو أماكن أو أسماء توحد معنى القصيدة الشامل بشكل رصين وبدون إقحام رتيب مما تجعله –أي الشاعر- مثل عصفور في حديقة يطير بالقارئ بجناحيه هنا وهناك دون ضجر , راسماً صوراً إضافية جوهرية للقصيدة ومعززاً فيها بنيتها لبلوغ القصد . وهذه تذكر طبعآ بـ” عزرا باوند ” Pound Ezra صاحب الأناشيد Cantos إذ يقول : على القارئ أن يطّلع بثقافة العالم القديمة والحديثة لكي يدرك أسلوب ومعنى القصيدة والعلاقات التي تربط الإشارات ببعضها البعض . هذه العناية المقصودة من قبل الشاعر في بناء قصائده تدفعنا إلى ضرورة تفكيك deconstruct To بنية القصيدة تبعا للمفردة اللغوية ومعرفة درجة إسهامها في رؤية الشاعر التحتية vision Underneath :

وداعاً أيها العشاق ، أيتها الجميلات

كافيهات باريس

مطاعم المونبارتاس

* * *

* * *

وداعاً ميرو

بيكاسو

براك

أمير من أور ص101

لمن يوجه الشاعر خطابه في هذه المقطوعة ؟ أليس ل أحمد الجاسم ؟! الم يحفزنا بهذه الاشارات الى البحث والقراءة عن دلالاتها مثلما فعل أليوت حين يستذكر صديقه العزيز جان فردينال بالأشارة اليه في قصيدته ” الارض اليباب ” بالفينيقي وقد أقتبس أليوت نفسه الصياغة الشعرية وأصل الفكرة من مسرحية ” العاصفة ” لشكسبير ليدفع القارئ نحو البحث والأستقصاء :

البحار الفينيقي الغريق

هاتان اللؤلؤتان كانتا عينيه . أنظر ! اليوت

من ناحية أخرى فأن الشاعر يمتاز بتنويع اتجاهات القصيدة في جوهرها عن طريق تخّيل القارئ لتلك القصص أو الإشارات أو الأسماء عند قراءتها فيجعله يندفع إلى الأمام في مجال ثقافته بدلاً من التقوقع في جانب واحد ليطابق بين ظاهر المعنى ورؤيته :

فلست إلا أحد عميان (بروجل )

الذين يقودهم الصبيان في الطريق

ملتقطاً الحصى والأصداف

القصيدة السابقة

في هذا الجزء من القصيدة يطرح الشاعر موضوعة جديدة هي ” لوحة بروجل ” Pieter Brueghel العميان الستة ” أو أعمى يقود الأعمى The Blind Leading the Blindوعلاقته به من حيث المصير إذ لا يقوى على شيء غير التقاط الحصى والأصداف وكأن الحقيقة ألقت بظلالها عليه برغم البعد الزمني الكبير الذي يفصل بينهما . إن تضمين القصيدة بهذه الإشارات تضيف بنائية فعّالة في القصيدة برغم ملامح استحواذها على الشاعر من حيث الشكل والحساسية ، إذ إن هناك جدلية Dialectic بين جميع الإشارات : القصص، الأسماء، الأماكن، والمعنى الجوهري للقصيدة بشكل يقترب أحياناً من بنية القصيدة الاليوتية Elioticism وخاصة في الأرض اليباب The Waste Land التي يظهر فيها اليوت ارثه الثقافي ليوظفه في خدمة غرضه في القصيدة ووفقاً للعلاقات التي تلمّح إليها تلك الإشارات :

لا أريد لاسمع نجمة رابح درياسة القطبية

منك ثانية

لا أريد لازور اللوفر يوم الأحد

ولا أريد التجوال معك على بوليفيار السان ميشيل

أو في الحي اللاتيني

لا أريد مشاهدة ” الموت في البندقية “

وسماع موسيقى ماهلر

المرور بالشاتليه حيث مركز بوبور

لاقتناء البطاقات البريدية

* * *

وداعاً باريس ، روما ، فينيسيا ، الفاتيكان

النوتردام ، مكتبة شكسبير ، اللوكسمبورج ، المولان روج ، المونمارت

وداعاً ميرو

بيكاسو

أمير من أور ص101

لفهم الشاعر بشكل كلي ليس إلا محاولة ، فالأشياء والأماكن والأشخاص – كالحنطة ، عيد البوقات ، الغرانيق ، تشايكوفسكي ، باريس ، فينيسيا ، مونمارتر، جوستاف كليمت واراغون ما هي إلا طريقة أو نمط لتقريب الحقيقة إلى القارئ تتكرر في الكثير من القصائد ، فهي صور أو شواهد ذات صلة بحياة الشاعر من ناحية ومصادر تساعد القاريء للوصول للمعنى الذي يريده في القصيدة الواحدة من ناحية أخرى مما تشكل الأجزاء جميعآ الأشد إشراقا وبريقاً في قصيدته :

فيفا ” فرانكو ” تقول كتائب ( الفلانخ )

فيفا ” موسوليني ” يقول فيلق ( الكوندو )

يسقط ” بيرون “يقول بورخس

كلمة بورخس ص119

* * *

لن تكون ابناً لايثاكا

ولا اخاً لعوليس

الذين اختاروا الرحلة إلى ايثاكا

لا يركنون للدعة

ولا يتلفتون للوراء

ولا يلتمون حول النار

لن تكون ابنا لايثاكا ص139

في هذا السياق تتجلى أسئلة كثيرة أهمها هو السؤال التالي : لماذا هذه الإشارات او التلميحات hints من الأسماء والأماكن والقصص أو حتى الاقتباس أحيانا التي يضمنها الشاعر بوعي تام ونطاق كبير في قصائده ؟! هل أن سبب ذلك هو مجتمعة وما جرى عليه من أهوال تسبب في الإفراط في عطفه على نفسه أولا بسبب قتامته ومقدار الظلم الذي وقع عليه مما ترك أثراً نفسياً داخل كيانه الشعري فأنصرف إلى هذا

النوع من البناء الشعري البديل poetry structure alternative ؟ أم أن رصف هذه الإشارات كما فعل اليوت هي استمالة للقارئ أو دعوته للبحث في الثقافة وفقاً للمصادر التي يدونها لكي تكتمل المعادلة الجدلية بين الشاعر والقارئ من ناحية وبين القارئ والنص الشعري من ناحية أخرى ؟!

طغامة

تجلس عليه الثقة

جلوس قبعة حرير على رأس تاجر صوف

من برادفورد

* من أولئك الذين عناهم اليوت وخصهم بالاشارة .

كيف تشتغل قصيدة لابولنيير بالعربية ص132

استطيع أن أقول بان مورفولوجيا الكلمة ليس تزيينا لسطح القصيدة. بل هو إدراك لقوانين مترابطة ، وهي في نظر الشعراء الكبار مثل ت، س اليوت و عزراباوند وعي عال يتثاقف به القارئ مع الشاعر عندما يتتبع ذلك السطح Surface Structure وعلاقته بالجوهر Deep Structure. فأليوت في قصيدته الارض اليباب

المنشورة عام 1922 التي تعتبر بحثا في جوهر ذاته الشعرية قادته إلى الفكرة المحفزة والنقية للثقافة وذلك بطريقة الإشارات والاقتباس والتلميح التي هي بالتالي اختزالا لثقافته التي تؤسس لثقافة القارئ .

صفق الكثير من الشعراء العرب وبالتعاقب لهذا النمط من الشعر منذ نشر القصيدة تلك التي لعبت دوراً كبيراً في تاريخ الشعر الحديث بشكل عام . يعتبر شاعرنا حسين عبداللطيف احد هؤلاء وقد عمل في هذا المشغل زمناً طويلاً مستوحياً من تراثه العراقي والعالمي قصصاً وحكايات وأساطير كانت مبعث تعاطف ودهشة وحجة له في أغناء المعادلة البنائية لقصيدته من دون غموض bscureO كما يزعم بعض النقاد عند قراءة هذا النمط من القصائد :

عما قليل سيحل الغروب

وتلك النائمة في السعف

مازالت تنوح

باحثة عن أختها التي في (الحلة)

* * *

من إذن سيشاطرني فرحي برذاذ أيلول

* * *

بـ( سادو ) بازولين

بجازينو اورليانز

أو الحديث عن رسوم جان اشلي

أو مارك شاغال ، كليمت

آه ، نسيت جوستاف كليمت سحابة صيف ص96-98

في النص الوارد ، تساهم مفردة ( الحلة ) بالإشارة إلى الترديدة الشعبية المعروفة عن الفاختة التي تبحث عن أختها المفقودة ضمن حوار داخلي Soliloquy حزين تردده دائماً ، وهي دلالة ضمنية على الألم النفسي الذي صاحب الأخت كأنموذج لحزن والتياع في ذاته :

– كوكوكتي وين أنتِ ؟

– بالحلة

– اشتاكلين

– باكَله

– شتشربين ؟

– ماي الله

ترديدة شعبية قديمة

يظل هذا الشاعر منبسطاً في منجزة الشعري لعوالم ذات صلة وانتساب تربط بعضها البعض بموضوع الصورة الشعرية التي يقدمها ، وهو غير متخف وراء ظلال ولا يحتاج عند وصف شعره إلى قواميس في اللغة التجريدية ، بل شعره نفسه يقودنا إلى الشيء الذي يهدف إليه بمتعة حقيقية . فعالمه الشعري عالم تصويري مترابط وثري بذاته .

* المجموعة الشعرية الأخيرة التي صدرت عن دار الجمل في ألمانيا عام 1995.