بدأت العمالة الوافدة تتدفق على دول مجلس التعاون بعد الطفرة النفطية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، حيث فتحت الأبواب الخليجية على مصراعيها لاستقطاب مختلف أنواع العمالة الوافدة من مختلف أقطار العالم، وخصوصاً من القارة الآسيوية.
تنوّعت الحاجة إلى هذه العمالة ما بين عمالة أمية غير ماهرة، وعاملات منازل وفنيين وخبراء ومستشارين، فدخلت كل القطاعات، وجميع المهن والحرف في البر والبحر والجو. ولم تتمكن القوانين والتشريعات من وقف طوفان هذه العمالة، الذي استمر يغزو أسواقنا ومؤسساتنا وديارنا بلا توقف وبلا اكتراث لآثاره السلبية على الاقتصاد والمجتمع. حتى القطاعات التقليدية مثل التجارة والزراعة وصيد الأسماك دخلتها هذه العمالة بكل قوة، بل وتسيّدت فيها فأصبحوا هم أصحاب القرار بعد أن أبعدوا عنها المواطن الذي كافح لأجل البقاء لفترة من الزمن، قبل أن يدرك بأن مواجهة ومنافسة هذه العمالة الرخيصة مضيعةٌ للوقت، فاقتنع بإخلاء المكان لها، مقابل عائد مالي بسيط هو قيمة الكفالة واستخدام السجل، والذي يمثل نسبة بسيطة جداً من الأرباح التي تجنيها هذه العمالة من هذه المهن.
لقد دخلت هذه العمالة كل مكان به منفعة، المدن والقرى، المكاتب والقصور والفلل والمنازل والشقق وحتى الخيام التي اعتاد البعض منا على نصبها خلال فصل الشتاء، وبمسميات مختلفة: سائق، عامل، موظف، مدير، عاملة منزل، مربية أطفال، رعاية الكبار، وحارس أمن.. إلخ. وحتى سفراتنا الترفيهية اقتحمتها هذه العمالة فأصبحت معنا أينما نولي شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. أصبح البعض يتباهى بأن لديه أكثر من عاملة منزل وسائق ومربية ومرافق، بل قام البعض بتجهيز نفسه والاستعداد لما بعد الشيخوخة والزهايمر من خلال تدريب سائقه الوافد، أو أحد عمال المنزل لأجل الاعتناء به بعد أن يكون شيخاً مقعداً.
في الحقيقة لا يوجد شعبٌ في العالم اعتمد على العمالة الوافدة، وأدمن استهلاكها بشكل مفرط وقبل الهزيمة أمامها، مثل ما يعمله الشعب الخليجي، ولا توجد دولة في العالم فتحت أبوابها للعمالة الأجنبية وسمحت لها بالبقاء لسنين طويلة مثل ما فعلته دول مجلس التعاون. كما لا توجد دولة في العالم تتحمّل أعباء وتكاليف استقطاب العمالة الوافدة مثل ما تتحمله الآن دول الخليج. هذا الواقع المُر يعني بأن شعوب الخليج شعوب استهلاكية واتكالية، وليس لها نصيب في الانتاج العالمي من السلع والخدمات إلا تلك المنتجات التي تقوم بإنتاجها العمالة الأسيوية. فلا يمكن لشعب اتكالي أن يتقدّم إلى الأمام ويتطوّر ويبدع ويبتكر وينافس الأمم الأخرى، فالاتكالية تعني ضعف الثقة بالنفس وعدم الرغبة بالقيام بأي عمل. أصبحنا نهتم بحاضرنا الذي أصبح غايتنا دونما تفكيرٍ بمستقبلنا المظلم، ليس لنا إلا التفاخر بما نلبس وما نأكل وما نملك.
إنه وعلى رغم مساهمتها الكبيرة في العملية التنموية الخليجية، فهذا فضل لا يمكن أن ينكره أحد، إلا أن هذه العمالة وبفضل غياب القانون الفعال الذي ينظم وجودها واستخدامها، قد تحوّلت إلى قضية مؤرقة تهدّد الاستقرار الاجتماعي في هذه الدول. وقد ذهب البعض بتسميتها في بداية تدفقها بالقنبلة الموقوتة، والبعض الآخر بالنار الهادئة، أما الأمم المتحدة فقد حذّرت دول الخليج من الاعتماد المفرط على العمالة الآسيوية لما لها من تأثير خطير على الهوية الدينية والثقافية والفكرية والتركيبة السكانية. وقد تدارك وزراء العمل الخليجيون خطورة ذلك فقرّروا وضع سقف أعلى لهذه العمالة بحيث لا تتجاوز نسبتها 20 في المئة من إجمالي عدد السكان، إلا أن هذه الدول لم تلتزم بذلك القرار.
الآن وبعد مرور نحو 46 سنة على دخول العمالة الوافدة دول المنطقة، يبدو أن القنبلة الموقوتة قد انفجرت، وصوت الانفجار قد وصل إلى آخر المعمورة، فالعمالة الأجنبية الآن تهيمن وتستحوذ على هيكل وتركيبة سوق العمل الخليجي، فقد ساهمت هذه العمالة وبشكل كبير في تفاقم مشكلة البطالة بين المواطنين، فهي تزاحم المواطنين على الوظائف في كل القطاعات وفي جميع المهن. كما أن الخلل في التركيبة السكانية الذي حذرت منه الأمم المتحدة قد أصبح حقيقة وواقعاً، فأصبح البعض منها يطالب بحق الحصول على الجنسية الخليجية. بعض المنظمات الدولية بدأت تطالب الأمم المتحدة بضرورة التدخل لدى الجهات السياسية في الخليج لمنحهم الجنسية، بحجة أنهم من قاموا ببناء المشاريع التنموية بل الاقتصاد الخليجي، وذهبت هذه المنظمات للمطالبة باعتبار هذه العمالة مهاجرةً وليس عمالةً وافدة.
وبلغة الأرقام، تمثّل العمالة الوافدة 50 في المئة من إجمالي سكان دول المجلس، وتصل هذه النسبة في كلٍّ من قطر والإمارات إلى 89 في المئة، في الكويت 69 في المئة، البحرين 52 في المئة، عُمان 46 في المئة، والسعودية 33 في المئة. وتبلغ نسبتها من إجمالي القوى العاملة في البحرين نحو 60 في المئة، وفي السعودية ما بين 45 إلى 50 في المئة، الإمارات نحو 90 في المئة، الكويت أكثر من 60 في المئة، عُمان نحو30 في المئة، وقطر 85 في المئة. وتقدّر حجم تحويلات هذه العمالة في دول الخليج بـ100 مليار دولار، أي6.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الخليجي. منها 42 ملياراً من السعودية، و19 ملياراً من الإمارات، و17 ملياراً من الكويت، و11 ملياراً من قطر، و9 مليارات من عمان، و2 مليار من البحرين. كل هذه الأموال تذهب لتبني مدناً وقرى واقتصادات دول أخرى، بينما يُحرم اقتصادنا -الذي يعاني انخفاض السيولة- من الاستفادة منها.
هل لاتزال هذه الأرقام جرس إنذار لنا جميعاً، رجال أعمال وأصحاب قرار ومواطنين أم أن القنبلة الموقوتة قد انفجرت وفات الأوان؟
حبّنا لهذا الوطن يجعلنا متفائلين، «فلو ندمنا على الماضي وخشينا المستقبل لما تبقى لدينا وقت لنعيش الآن». ولكن كما يقال المؤلم حقاً هو أن ترى الأشياء حولك تتلوّث وتتألم بصمت.
نقلا عن الوسط