لا يخفى على المتتبع والباحث في الشأن العراقي الأسباب التي أوصلت العراق الى ما هو عليه الآن منذ سقوط النظام الملكي على يد العسكر والتداعيات التي رافقت جميع الحكومات المتعاقبة.
فالثورة كما يحلو للبعض أن يطلق عليها التي أطاحت بالنظام الملكي (الدستوري الشكلي كما يريد البعض أن يصفه) في الرابع عشر من تموز سنة 1958م لم تكن قد هيأت البديل الوطني من الكابينة الوزارية لتأخذ زمام المبادرة وبشكل جدّي وحس وطني خالي من (الأنا) التي وقع في شركها الإنقلابيون بعد نجاح التغيير .
فمجلس السيادة الذي شكله الإنقلابيون قبل يومين من الإنقلاب وتشكيلة الكابينة الوزارية لم تكن إلا ذراً للرماد في عيون الشعب لكسب تأييده ومناصرته للإنقلاب وهذا ما حدث ، لكن حقيقة الأمر تكمن في إتفاق قطبي الإنقلاب المتمثلة بالزعيم عبدالكريم قاسم والعقيد عبدالسلام عارف على تقاسم النفوذ وإهمال المجالس واللجان التي أعلنوها على الشعب في الأيام القليلة التي تلت الإنقلاب .
ومن هذا المنطلق يجب على الشعب وفئاته الوطنية أستيعاب الدرس البليغ من التغيير الدراماتيكي الذي حصل في تموز عام 1958م وعدم تكراره ، وحيثُ أن العراق بشعبه لا يحتمل المزيد من المآسي التي جرّعته السم الزعاف خلال أكثر من نصف قرن من الإنقلابات العسكرية والحروب التدميرية والدكتاتوريات الغبية .
ولو فكرنا قليلاً بما سيحصل فيما لو إقتحم المعتصمون المنطقة التي أطلق عليها جزافاً (الخضراء) ، وهذا إحتمال قائم وسألنا أنفسنا السؤال التالي : هل أن التنسيقيات المدنية ومن معها من التيار الصدري وبقية الأحزاب المشتركة بعناصرها المنضوية تحت يافطة التيار المدني قد أعدوا البديل الوطني المهني النقي والخالي من التحزبات لإستلام زمام المبادرة ، أم إنهم سيقعون في نفس الفخ الذي وقع فيه الإنقلابيون في تموز 1958م والذي دفعوا فيه حياتهم ثمناً لأنانيتهم وحبهم للسلطة ، والأكثر من هذا دفعوا بالعراق وشعبه الى أتون الحرب الأهلية والتفرق والتشرذم المجتمعي وترسيخ ثقافة التحزّب والتكتل الفئوي المبني على أساس الأيديولوجيات المستوردة أو التكتلات الطائفية أو في أحسن الأحوال العشائرية بسلبياتها المعروفة .
إنّ من يسعى الى التغيير يجب أن يكون قد هيأ البديل الأفضل وأن لا يضع الأمور على كفة عفريت ويقول سأغيّر الآن وسأفكر بالبديل غداً !!! .
لو نظرنا الى ما طرحه التيار الصدري وما طرحته الحكومة من قوائم للتغيير الوزاري (المرتقب) فسنجد بأنّ هنالك قصور في الرؤيا من الجانبين ، فالمسألة ليست بهذه السهولة التي تستدعي تغيير الوجوه بوجوه بديلة حتى وإن كانت في أعلى سلّم المهنية والتحصيل الأكاديمي ، فالنظام السياسي برمته قد أخفق في (ترميم) مخلفات التدمير الذي القي على عاتقه لبلد عانى من الحروب المدمرة والذي إنعكس على تدمير النظام الإقتصادي وحتى المجتمعي إضافة الى فقدان الحكومات المتعاقبة لثقة الشعب بهم نتيجة الإخفاقات المتكررة في إصلاح البلد ، وقد زاد من جاء بعد الإحتلال في 2003م الأمر سوءاً ، لا بل قضى على كل أملٍ مرتجى للنهوض بالبلد من كبوته حتى جعل الشعب يترحم على السيء بعد ان جرّب الأسوأ.
إنّ العراق وشعبه بحاجة ماسة الى التيارات الوطنية المتجردة من أي إنتماء فئوي سياسي أو ديني مسيّس أو قومي تعصبي تعمل على إعادة ثقة المواطن العراقي بنفسه أولاً وبقادته السياسيين ثانياً وبمجمل التكوين المجتمعي المبني على أساس المواطنة الحقّة الخالية من التشوهات الفكرية الدخيلة والعمل على بناء المواطن على أساس الإنتماء الوطني المجرد من أي تبعيات أخرى .