كل الحروب تنتهي في يوم من الايام ، فما الغرابة ان انتهت حرب ايران على العراق ، حتى لو اراد لها خميني الاّ تنتهي بغير سيناريو واحد : سقوط نظام البعث وصدام حسين بوجه خاص ؟! وهذا لم يتحقق ، بل حصل عكسه ممثلاً على المستوى الشعبي في صورة صدام كبطل وطني شاب تملؤه العزيمة وهو يتصدى لكابوس مزعج كان يؤرق غالبية من العراقيين ممثلاً في تهديد فارسي تاريخي طالما عبث بأمنهم وحرماتهم ومقدساتهم ، حتى اجبر مرة ً اهل الموصل أكل لحوم الكلاب والقطط جراء فرض الحصار على مدينتهم دون وازع من دين او ضمير .
عندما اندلعت الحرب في شهر ايلول ( مهما كان تاريخ يوم اندلاعها ) من عام ١٩٨٠ كان لها وجهان . باعتبارها حرباً فان لها ابعاداً ستراتيجية ، وفِي هذا الاطار كانت صراعاً لاهوادة فيه بين رؤيتين عقائديتين ، في مفترق طريق ، بين خيار القومية العربية الذي يتطلع الى بناء الحاضر مروراً الى المستقبل لاستعادة امجاد الماضي يمثله العراق ، ويقف في الطرف الاخر حلم فارسي تاريخي هو مزيج من تطلعات دينية متخلفة تغلف طموحات للهيمنة الاقليمية هدفها المشرق العربي والضفة الغربية للخليج العربي ، بعدما أعاد الشاه توجيه البوصلة باتجاه الجنوب والشرق نحو حوض المحيط الهندي وجواره الآسيوي شرقي ايران . في اطار ذلك فان ايران الجمهورية المصدرة للثورة الاسلامية وفق الاتجاه القديم للبوصلة تكون هي البادئة بالحرب ؛ لعلها لم تتخذ الخيار العسكري مباشرة ، ولكنها كانت تجرب خيارات اخرى مثل التحريض الطائفي وزعزعة الاستقرار في دول جوارها ودفع الموالين لها من خلائف الجاليات الايرانية التي استوطنت تلك الدول ، ومنها العراق ، للذهاب الى خيارات عنفية انتحارية على امِل اسقاط الانظمة القائمة او حتى الذهاب باتجاه حروب أهلية طائفية ، وكانت نقطة البدء هي العراق لاسباب جيوپوليتيكية معروفة ، وكونه البلد الوحيد في الجوار الايراني الذي يعتمد على قواه الذاتية دفاعاً عن نفسه وخياراته .
على المستوى العملياتي في الوجه الاخر للحرب فقد كانت بالنسبة للعراق خياراً استباقياً لمضطرٍ وهو في غمرة انشغال بعملية تنموية شاملة كرس لها موارد هائلة تجعل قيادته مؤهلة لحيازة رصيد في شارعها ذي الغالبية العربية الشيعية لعقود طويلة كانت ستأتي ، مما يجعل خيار الحرب لحل مشاكله أبعد احتمالاً بمسافة بعيدة ، لكن تجربة التنمية والنهوض والمستقبل باتت كلها تحت تهديد مباشر . لقد لخص احد اهم مؤرخي تلك الحرب وهو الپروفيسور إفرايم كارش الموقف على النحو التالي : ” بالرغم من ان العراق هو الذي لجأ الى القوة المسلحة فان اندلاع الحرب واستمرارها لثمان سنوات دامية هي مسؤولية ايران الثورية ” – كنتيجة لمشروع تصدير الثورة – ،،
لقد مرت الحرب بصفحات عديدة ، كانت صفحتها الاولى هي الضربة الجوية والبرية الوقائية العراقية يوم ٢٢ من ايلول ١٩٨٠ ، وانتهت بسيطرة العراق على شريط حدودي على طول خط الجبهة داخل العمق الايراني ، ولكن العملية استنزفت كامل قوة الجيش العراقي وتوقف هذا الجيش على حافات اهداف ستراتيجية مثل حقول نفط مسجد سليمان وعقدة المواصلات الرئيسية في دزفول لعدم كفاية القوات ، واكتفى بإمساك محاور تقدم محتملة لقوات العدو ، الامر الذي من شانه بعد هذا الزمن الطويل ان يشكل رداً على تلك الاصوات غير المسؤولة التي اعتبرت لقاء الرئيس صدام حسين بأول وزير خارجية للجمهورية الثورية وما أبداه الوزير من حسن نوايا تجاه العراق دليلاً على ان صدام حسين كان قد عزم تحت اغراء غربي – امريكي وخليجي مهاجمة الثورة . هذه الرؤية السطحية لاتستطيع ان تجيب على سؤال بسيط : هل كان يزدي يمثل السلطة الايرانية الجديدة ، والى اي حد ؟! ؛ لقد عرفت الرجل والتقيته شخصياً في طهران وكان يبدي ذات مشاعر الود تجاه العراق ، وتقديري انه كان صادق النوايا ، ولكن قيادته لم تكن كذلك ، وكنا في الخارجية انذاك ، كما كان مجتمع الاستخبارات العراقي بوجه عام ، نتوقع نهاية كل التحالفات التي قامت بعد الثورة بسبب حدة الصراعات بين مكوناتها ، وان تصميم الغرب هو دفع الاسلام السياسي في مواجهة خصمين لدودين للولايات المتحدة ومشاريعها الاقليمية : القومية العربية وحليفها السوڤيتي ، وقد فهم السوڤيت ذلك فذهبوا الى أفغانستان لانشاء منطقة عازلة امام ” الثورة الاسلامية ” ، فيما كانت قيادة العراق تبذل جهدها لتجنب الصدام مع ايران الجديدة التي اعلنت بدون مواربة ان هدفها الثاني بعد طهران هو بغداد ، ولأنه يضيق المجال لتفاصيل اضافية فقد كان خيار الحرب الاستباقية ، على كراهته وعدم اكتمال الكفاية من متطلباته ، هو الخيار الوحيد لتجنيب العراق غزوا في مستقبل ليس بالبعيد ، او حرباً أهلية ينساق باتجاهها من اعمت قلوبهم العقائد الطائفية المريضة وحلفائهم من بقية فصائل الاسلام السياسي السني ، ونُذر ذلك كانت لاتخطؤها البصيرة . دخل العراق الحرب وتعداد فرقه العسكرية يقل عن خمس عشرة فرقة قسم منها لم يكن مكتمل التجهيز او التدريب الكافي .
قد لايدرك البعض ان فترة الحرب لم تكن فترات دفاع وهجوم وعمليات عسكرية فحسب بالنسبة للعراق ، بل كانت فترة بناء لقواته المسلحة ، وخلالها شهدنا مولد قوة الحرس الجمهوري وعشرات الفرق في الجيش ، وهذه هي الصفحة الرئيسية الثانية والتي امتدت منذ عودة الجيش الى الحدود الدولية عام ١٩٨٢ وحتى اواخر عام ١٩٨٦ حيث حلت في تلك الفترة قلاّبة قدر اسمها ” معركة الحصاد الاكبر ” ، وكانت تلك معركة قد آذنت ميلاد اخر مراحل الحرب والرجحان النهائي لقوة العراق العسكرية وايصال ايران الى فترة من العجز سوف تتجلى في ظاهرة تفكك قوته العسكرية بين نيسان ١٩٨٨ وحتى اب من ذات السنة تم خلالها تحرير ألفاو بعد سنتين من الاحتلال الايراني ، حتى لم يتبق امام العسكرية العراقية قوة ايرانية ذات بال تحول بينه وبين تحقيق اي هدف ، وفِي تلك المرحلة ولدت فكرة اعلان تحرير عربستان بعد اجتياح الجنوب الايراني ، وقد أعدت الخطط لذلك لولا بدء حملة كبيرة من الضغوط التي مارستها اطراف عديدة من بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوڤيتي والسعودية والامم المتحدة ، فلم يعد بوسع العراق سوى القبول بوقف إطلاق النار في الموعد الذي اختارته الامم المتحدة وهو الثامن من اب ١٩٨٨ بعد فترة من المماطلة كسباً لوقت احتاجه الجيش لاتمام تحرير عربستان بدأها العراق برفض القبول الايراني لوقف إطلاق النار اذعاناً للقرار ٥٩٨ الا ان يكون صادراً من الخميني صراحة الذي كان يرفض ذلك الا بعد اسقاط صدام حسين ، وكان للعراق ذلك ، وتليت علناً رسالة من الخميني بذلك . ثم لجأ الوفد العراقي برئاسة المرحوم طارق عزيز الى اشتراط مفاوضات مباشرة تحري في مقر الامم المتحدة بين العراق وايران دون وساطة الأمين العام الا باعتباره شاهداًممياً لغرض إقرار موعد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ ومناقشة مايترتب عن ذلك ، وكانت القيادة العراقية نعرف حساسية الجانب الايراني من اسم طارق عزيز المسيحي ،، كل ذلك كسباً للوقت لان المعارك كانت ماتزال تجري رغم خفة وطأتها بسبب انعدام المقاومة من الطرف الايراني .
لقد رصد الامريكيون ذلك ، وكان اخر مايرغبون به رؤية خروج العراق منتصراً باعلان نهاية الحرب وهو يحتل اجزاء واسعة من جنوب ايران ، فقاموا بإرسال تقرير موقف الى الأمين العام ديكويلار تضمن ، وفقاً للامين العام المساعد المكلف بملف القرار ٥٩٨ جياندومونيكو پيكو ، انه وصل الى علم القيادة الايرانية ان بلادهم تخسر الحرب !!، وان العراق يتهيأ لاحتلال جزء كبير من البلاد ، وسيتوغل الجيش العراقي الى مسافة مئات الكيلومترات داخل ايران . كما قدر الامريكيون ان ايران لن تتعافى من الخسائر التي لحقت بها منذ نهاية عام ١٩٨٦ لسنوات لاحقة ، كما كان العراق يحقق انتصاراً في حرب ناقلات النفط وتفوقاً في حرب الصواريخ التي تستهدف المدن التي بدأتها ايران وتورطت فيها ، اضافة الى المعارك البرية التي اعقبت تحرير ألفاو في قواطع الشلامچة وحقول مجنون ودهلران وتحقيق العراق تفوقاً مذهلاً في حرب الدروع واصبح يتفوق بنسبة عشرة الى واحد في هذا السلاح الحاسم ( لم يذكر الأمين العام المساعد التفوق الساحق والنهائي لسلاح الجو العراقي بعد مغادرة حوالى مائة خبير اسرائيلي ايران عام ١٩٨٧ اثر تيقن قيادتهم ان ايران قد خسرت الحرب وماتبقى هو قضية وقت ) ،، الخ من مظاهر خسارة حرب مثل تفكك وحدات عسكرية ايرانية وانحلالها في قواطع الجبهة المختلفة وصل حد ترك الدبابات والمدرعات دون إطفاء محركاتها ، وكانت تقديرات الاسرائيليين – بضمنهم حاييم هيرتزوغ رئيس ” اسرائيل ” – ان استمرار الحرب بدأ يعزز من قوة العراق ويعمل على صعود الروح الوطنية بشكل ملحوظ ويزج في دائرة العمل طاقات كانت معطلة مثل النساء ، والاخطر في كل ذلك هو تعاظم مهارات القيادة العراقية على مختلف المستويات في ادارة اقتصاد وشؤون بلد وهو في غمرة صراع دامٍ دون اختناقات تذكر ، فضلاً عن انتاج الحرب جيلاً من اكثر القادة والضباط في المؤسسة العسكرية كفاءة على المستوى الدولي .
في ذات الاطار فقد وضع العراق في موقف حرج عندما اعلنت مستويات سعودية عليا انها ستتوقف عن دعم العراق مالياً وانه لابد من ايقاف الحرب ، وهذا يعني الكثير بالنسبة للعراق ..
والحقيقة انه لم تعد لدى العراق مبررات للاستمرار بالحرب بعد ان أذعنت ايران لطلباته حول كيفية اخراج المراحل الاخيرة وصولاً الى وقف إطلاق النار في الثامن من شهر اب عام ١٩٨٨ ، وقد ان الاوان لاستئناف عملية التنمية التي أوقفت منذ عام ١٩٨٢ بسبب اعباء الحرب وهو امر سيفتح باب مواجهة جديدة اطرافها اشقاء !! .