22 ديسمبر، 2024 8:42 م

يونادم كنّا ومكيخا الثاني والصعود في زمن السقوط

يونادم كنّا ومكيخا الثاني والصعود في زمن السقوط

قفزت الحركة الديمقراطية الأشورية إلى واجهة الأحداث في العراق عام 1991، بعد أن أقامت قوات التحالف الدولي التي أخرجت العراق من الكويت في ربيع ذلك العام، المنطقة الآمنة شمال العراق، والتي سمِّيت بالملاذ الآمن، وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 يوم الخامس من أبريل/نيسان 1991 م، مع أنه لا ينص على فرض الحظر الجوي، امتدت منطقة الحظر شمالاً من خط العرض 36 وجنوباً حتى خط العرض 32, وفي أواخر عام 1996 م وتم توسيع منطقة الحظر الشمالية إلى خط 33 والذي كان أقرب إلى حدود العاصمة بغداد، على الرغم من أن هذا الحظر لم يطبق بشكل كامل لحماية الشيعة جنوب العراق، لذا إنحصر تطبيقه ضمن المنطقة الكردية.

ولم يكن للمسيحيين أية تنظيمات سياسية حزبية بسبب البيئة المضطهدة والمستندة إلى إستخدام القوة في التعامل مع المعارضين داخليا. وكان التشكيل السياسي الوحيد مع جماعات المعارضة (إن صَحَّ التعبير، لإفتقارها لرؤية وطنية موحدة) هو الحركة الديمقراطية الأشورية، وهو فصيل صغير ظهر بعد قرار منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية عام 1972 الذي خلق مناخاً من الحرية الفكرية قاد إلى تقارب عدد من المثقفين المسيحيين على مختلف مذاهبهم وطوائفهم التي أعترف بها القانون وفقاً لنظام ملحق نظام رعاية الطوائف الدينية المعترف بها رسميا في العراق رقم 32 لسنة 1981، وهي (14) طائفة مسيحية.

وكان للتدخلات الدولية دورا كبيرا في نشوء هذه الحركة التي قامت في أعقاب الحرب العراقية-الإيرانية صيف عام 1981. ولم يكن النظام الإيراني يشجع كثيرا على نشاط هذه الجماعات على إقليمه خشية أن تتسرب الأفكار القومية إلى شعبه فتقود إلى إنقسام المجتمع وتمزق الدولة أولا، وتلافي إتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى عضو في الأمم المتحدة ثانيا. ومن أجل دعم هذه الحركة وغيرها من الأحزاب الكردية والشيوعية المعارضة لنظام صدام حسين، فقد أقيم لهم معسكر صغير في منطقة المثلث الحدودي الفاصل بين العراق وإيران وتركيا. ومن البديهي أن تركيا لم تكن تشجع بأي شكل من الأشكال أي تنظيم سياسي مسيحي، وخاصة إذا كان من الأشوريين الذين ثاروا على الدولة العثمانية وإنضموا إلى القوات الروسية ثم البريطانية إبَّان الحرب العالمية الأولى.

وإستطاعت هذه الحركة أن تجري إتصالات مع أطراف دولية في بريطانيا وأمريكا التي إحتضنتها إسوة بالمجموعات الأخرى المعارضة لصدام حسين للإستفادة منها لاحقا. وبمجرد إقامة الملاذ الأمن أو منطقة حظر الطيران شمال العراق، إنحدر مقاتلو هذه الحركة وهم قلة قليلة إلى مناطق تواجد المسيحيين في محافظتي دهوك وأربيل، وأقاموا مقرات لأحزبهم وأنشأوا إذاعة محلية أول الأمر ثم تطور الأمر إلى قناة فضائية، كما أصدروا صحيفتهم ومجلتهم بشكل شبه منتظم. وعند قيام أول حكومة كردية تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني، منح يونادم كنّا سكرتير عام الحركة الذي عاد إلى شمال العراق بعد فقدان الحكومة العراقية السيطرة عليه إثر حرب الخليج وشارك ضمن العمل السياسي في إقليم كردستان العراق منصبا حكوميا حيث أصبح عضوا في البرلمان الكردي ووزيراً للإسكان في أول حكومة محلية في الإقليم عام 1992. ومنذ ذلك اليوم، أخذ كنَّا يتنقل بين المناصب من وزير إلى عضو مجلس الحكم، فعضو في البرلمان العراقي، طيلة 28 سنة، وحتى يومنا هذا، ففاق بذلك فترة حكم صدام الذي يدعي مقارعته لدكتاتوريته التي إستمرت 23 عاما، وهي أقل من فترة كنَّا بخمس سنوات. وقد أثيرت الكثير من الشبهات حول دور كنَّا وعلاقته بالنظام السابق وبالدول الكبرى ومصادر تمويله، وجنسيته الأجنبية.

وبعد سقوط النظام السابق في العراق عام 2003 من قبل القوات الأمريكية بشكل قاد إلى أسقاط الدولة ومؤسساتها وحل جيشها، بموجب قرارات الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، وفي سعيه لتشكيل مجلس حكم يتولى مقاليد البلاد، برز كنَّا ومن خلفه الحركة الأشورية بإعتبارها الفصيل الوحيد الممثل للمسيحيين والمدعوم أمريكيا وبريطانيا وحتى إيرانيا، ناهيك عن العلاقة مع الأكراد بحكم تواجد أغلبية مسيحية متمركزة في المنطقة الكردية شمال العراق، فأعتبر ضمن الأحزاب الرئيسية المناهضة لصدام حسين والمشاركة في السلطة الجديدة، فمنح منصب عضو مجلس حكم في المجلس الإنتقالي أواخر عام 2003، على الرغم من إعتراض البطريرك الكلداني عمانوئيل دلّي على ذلك بإعتبار أن الطائفة الكلدانية هي أكبر الطوائف المسيحية في العراق. وعند التوقيع على الدستور الجديد عام 2005، ظهر كنَّا فرحا جذلا أكثر من الأخرين وبدلا من أن يوقع على وثيقة الدستور فقط كما فعل زملائه، فإن فرحته قادته إلى رفع وثيقة الدستور فوق رأسه أما كاميرات الصحفيين والإعلاميين وعبى شاشات التلفاز.

إستمر يونادم كنَّا وحركته الأشورية تلعب دور الوصي على مقدرات المسيحيين، مما أدى إلى نفور العديد من الطوائف الأخرى منه، كما أن مناخ الحرية التي أقامه الأمريكان في العراق بعد سقوط النظام السابق، أدى إلى ظهور تنظيمات سياسية جديدة منها كلدانية بدفع وتحريض وتمويل من الأحزاب الكردية، وأخرى أشورية دخلت الساحة بحثا عن فرصة للإثراء والغنيمة، بالإضافة إلى أحزاب سريانية نظمت نفسها سريعا، وأخيراً، ظهر تنظيم سياسي بجناح عسكري تحت راية وتوجيهات شيعة العراق والحشد الشعبي المدعومة من إيران.

وهذا نشأ 14 حزبا مسيحيا، لا بل الأكثر من ذلك، فقد إندفعت التنظيمات السياسية المسيحية إلى إنشاء ميليشيات مسيحية على غرار الشيعة والسنة والأكراد، بعد سقوط مدينة الموصل بيد داعش عام 2014، وفي مقدمة هذه الأحزاب الحركة الأشورية، فنشأت 7 فصائل مسلحة مسيحية تتصارع فيما بينها أكثر مما تتصارع مع من يهدد وجودها، الذي قَلّ كثيراً من 1،4 مليون عام 2002 على 400 ألف مسيحي فقط عام 2017.
والأسوأ من كل ذلك، هو دخول رجال الدين المسيحيين حلبة التنافس والصراع السياسي متجاهلين تعاليم الكنيسة في الإبتعاد عن السياسة وفصل الدين عنها، وبدا البطريرك الكلداني سياسيا أكثر من أي حزب أو فصيل سياسي مسيحي، لا بل ذهب أبعد من ذلك إلى ضرورة خلق مرجعية دينية تتحكم بالسياسة وتوجه أتباعها، على غرار المرجعية الشيعية. كما جاء في تصريح صادر عن البطريرك بتاريخ 16/1/2018.

وكان يونادم كنَّا وحركته الأشورية الأكثر استعدادا للدخول إلى حلبة الصراع السياسي والإستحواذ على منصب تمثيل المسيحيين في العراق. ولم يكن كنَّا يتفوق على الأخرين بكفاءته وحرفيته، كما يصوِّره أتباعه على المواقع الألكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، بل إن كل ما يميزه عنهم هو علاقاته الدولية ودهائه السياسي، حتى صوَّره البعض بأنه مخادع كبير في محيط صغير.
وفي ظل الوضع العام في العراق بعد عام 2003، وهو وضع شاذ قائم على التخلف والجهل بغية تمرير مخطط إعادة العراق إلى القرون الوسطى كما عنه جيمس بيكر في محادثاته مع طارق عزيز مطلع عام 2003. ولم يكن المتصدِّين للعمل السياسي من الكفاءات العلمية والمهنية وحتى السياسية، بل كانوا حفنة من الإنتهازيين والمخادعين والباحثين عن السلطة وإمتيازاتها بأي ثمن كان، حتى وأن كان على حساب مصالح البلد والشعب. وجاءت ترشيحات الحركة الأشورية للمناصب الحكومية منسجمة مع ذلك التوجه العام. فقد رشَّح يونادم كنَّا إبن أخته سركون لازار صليوا لمنصب وزير البيئة عام 2010، ولكنه لم يستمر طويلا، بعد أن أصدرت محكمة جنايات النزاهة في العراق عليه حكمًا أوليًا بالحبس الشديد لمدة عامين وغرامة 338 مليون دينار عراقي (نحو 300 ألف دولار) بحقه، لـ “ضلوعه بقضايا فساد” عام2015. كما إن مرشحه لثلاث دورات متتالية منذ 2006 هو عماد يوخنا ياقو الذي فاز بدورتين برلمانيتين لثماني سنوات، ومازال، في حين أعلن البرلمان في كانون الثاني الماضي إستبعاده من الترشح مجدداً نظراً لحصوله على شهادة الإعدادية فقط. ومع ذلك، فقد أصرَّ كنَّا على ترشيحه مرة ثالثة ضمن نسبة سعت اليها أحزاب السلطة في البرلمان بالسماح لحملة الأعدادية بنسبة 20% من المرشحين. وحتى على صعيد المناصب الأخرى، فقد رشَّح كنَّا عدد من الأشخاص غير المؤهلين لمنصب سفير، منهم ألبرت يلدا سفير العراق في الفاتيكان، الذي اعتبر أضعف سفير في الخارجية، وكذلك رشَّح مؤخرا، وليم شعيا لمنصب سفير، وهو طبيب بيطري مقيم في السويد، ويتناقض إختصاصه مع السلك الدبلوماسي.
ومن جانب أخر، وقفت الحركة وكوادرها ضد أي مرشح كفوء، كما حاربوا إحدى المرشحات الأشوريات من حملة الدكتوراه في القانون، ولم يتركوا أي وسيلة لمحاربتها.

وإزاء مقاطعة نسبة كبيرة من الشعب العراقي للإنتخابات الأخيرة بنسبة كبيرة وصلت إلى 80% من مجموع التاخبين، وسعي الولايات المتحدة إلى إزاحة الكتل السياسية التي شاركت في مجلس الحكم ورؤسائها، لإنتهاء الغرض منهم، ولتمسكهم بالسلطة بشكل مقيت، فقد جرى تفتيت تلك الكتل بقص إضعافها، وهكذا جرى تقسيم المجلس الأعلى وغيره، كما أزيح من المشهد السياسي أحمد الجلبي وجلال الطالباني ومسعود البارزاني، ونوري المالكي إلى حد كبير، وعدد من قيادات حزب الدعوة. أما الحركة الأشورية فقد بدت أخر المتماسكين من تلك الكتل، وجاء فصيل حركة بابليون المدعوم شيعيا، إلى جانب إئتلاف الكلدان المدعوم من البطريرك الكلداني والرابطة الكلدانية، ليسحبوا البساط من تحت أقدام كنَّا وحركته، فكانت النتائج الانتخابية للكوتا المسيحية مثيرة للجدل، وكالآتي:
حركة بابليون، فازت بمقعد واحد لمرشحها في نينوى أسوان سالم الكلداني.
حركة بابليون، فازت بمقعد واحد لمرشحها في بغداد برهان الدين إلياس.
تحالف الكلدان، فاز بمقعد واحد لمرشحها في محافظة أربيل هوشيار قرداغ.
المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري، بمقعد واحد لمرشحتها في محافظة كركوك ريحان حنا.
أئتلاف الرافدين، فازت بمقعد واحد لمرشحها في محافظة دهوك عمانوئيل خوشابا.

ومن الناحية التاريخية، فإن يونادم كنَّا قد لعب دورا مشابها لما لعَبه الجاثليق مكيخا الثاني أثناء سقوط بغداد على يد المغول بقيادة هولاكو عام 1258، والذي تقرَّب من هولاكو بفضل زوجته المسيحية (النسطورية) دقوز خاتون، فمنحه هولاكو الحماية هو وجماعته، وأعطاه قصر الدويدار المعروف، وهو قصر أمير الجيش الذي كان سُنِّيا، بعد أن قابل هولاكو مع الوزير الأول إبن العلقمي الذي كان شيعيا، وفضَّل عدم قتال المغول ومهادنتهم، وأعتبر منقذا لهم، وفاتهم أن المغول مهما طال بقائهم فهم راحلون، وهكذا لم يستمر شهر العسل مع هولاكو أكثر من 37 سنة، أعقبها موجة من الإضطهادات ضد المسيحيين بعد أن أسلم أيلخانات المغول منذ عهد السلطان محمود غازان عام 1295. (ومن غرائب الصدف أن يكون هذا اليوم المصادف 21 آيار/مايو هو يوم إنتصار هذا السلطان ودخول المغول الإسلام). وبعد محمود غازان جاء تيمورلنك الذي إضطهد المسيحيين وطاردهم في إيران، فلجأوا إلى جبال هكاري في تركيا، فتحصنوا فيها لسبعة عقود، ولم يغادروها إلا بمجيء الروس فالبريطانيين عام 1914-1917.
وهكذا تمكنت كل الأطراف من إزاحة يونادم كنَّا من المشهد السياسي، ليخرج على شاشات التلفاز يوم 17/5/2018 ليتهم فصيل شيعي بالإستحواذ على مقاعدهم من الكوتا المسيحية، وليندب حظه مثل أي مرشح خاسر أخر. وقد كتب أحد المرشحين المسيحيين رغم خسارته، مخاطبا كنَّا: ما زرعتم من زيوان وأشواك ودغل اسود حصدناه وأياكم. قائلا، “أخي يونادم : ليست الانتخابات من وضعت أوزارها، بل مرحله كامله وضعت أوزارها وانتهت من زمن شعبنا، مرحله مريره وقاسيه ،مرحلة جدب وقحط واضطهاد، موسم هجرة شعبنا استطال لعقدين من السنين إلى مفازات الدنيا ،مرحلة امتدت مذ عرف شعبنا إطلالتكم الكريمة وخاصة بعد 2003 حتى نهاية هذه الانتخابات ، هذه المرحلة من شعبنا كان جنابكم (بطلها) دون منازع”. (أنظر، صباح ميخائيل برخو، في رسالة مفتوحة إلى كنَّا بتاريخ 15/05/2018).
ومع هذا، فإن ما جاءت به هذه الانتخابات من توزيع جديد لمقاعد الكوتا المسيحية، يجب أن لا تفهم على إنها ضد يونادم كنَّا فحسب، بل هي ضد الحركة الأشورية التي فقدت بريقها، وأصبحت على وشك مغادرة المشهد السياسي المسيحي في العراق، والذي هيمنت عليه طيلة 15 سنة، وإن أفضل ما تفعله الآن هو أن تعيد النظر بسياساتها بشكل عام، لأننا أمام عهد جديد، عسى أن يشفع لها ولسكرتيرها العام ذلك، وإلا فإن هذه الانتخابات قد دقَّت المسمار الأخير في نعش الحركة الأشورية.