في سنوات ليست بعيدة كانت دائرة البريد والبرق في أي مدينة عراقية هي حلقة الوصل بين المدن والناس داخليا وخارجيا , وكان ساعي البريد شخصية محبوبه للجميع متجولا ببدلته الزرقاء وحقيبته الصفراء المحملة بالرسائل والبرقيات والأخبار السارة والحزينة , وإضافة لذلك العمل الكبير كانت الدائرة تقوم بالتحويلات المالية وتأمين إرسال الرزم البر يدية , ورغم بساطة العاملين فيها وبساطة وسائل العمل وقلة نفقاته لم يسجل التاريخ سرقة حوالة أو إختلاس بضاعة محولة . ويومها كان للفلس شأن وللدينار هيبة .
عندما تحولت المهمة للبنوك صارت السرقة والإختلاس وتبيض الأموال مهمة سهلة رغم أن البنوك تتعامل بالكومبيوتر والقاصات الأمينة وسرعان ما يعلن البنك عن حريق بسبب مس كهربائي , ولأن المال والسلطة توأمين للتعاضد والمؤازرة صار للبنك إسهام في إسقاط حكومات وتغيير حكام وتبديل وجوه , ومع التطور الحضاري السريع وتطور وسائل الإتصال فقدنا لونا أدبيا هو كتابة الرسائل العاطفية والفكرية بين أدباء تلك المرحلة وعشاقها , وقد كتب فيه وبه الكثير من أدباء القرن العشرين , حصل كل ذلك عندما ماتت دائرة البريد وإختفى ساعيها فماتت هواية جمع الطوابع هي
الأخرى .
وعلى ذكر ساعي البريد والذي يسمى في مصر البسطكي كانت رائعة محمد عبد الوهاب ورجاء عبده بإغنية : البوسطكيه إشتكوا من كثر مراسيلي ** وعيوني لما بكوا ذابت مناديلي .
ويومها كانت اذاعة بغداد عام 1958 تعيد الأغنية عشرات المرات في دس لأن والد جمال عبد الناصر (الله يرحمه) كان بسطكي , ترى لو عاد أبو السعود الأبياري مؤلف الأغنية ويرى سياسينا الأشاوس وآبائهم الكرام من غير المهن التي تعتمد عرق الجبين ماذا سيكتب .
هل السيد الفيس بوك وأخوانه وراء عملية موت ساعي البريد , وهل التطور الحضاري خلف إختفاء دائرته , أم أن هناك عصابة مسح وجود وخلق وجود وما السيد الفيس إلا ابنا شرعيا لتلك الدائرة الأم !؟.