23 ديسمبر، 2024 9:09 ص

في سنوات طفولتي المبكرة كانت زيارة الكاظم في العيد واجبا نستعد له قبل اسابيع، وحين يزف الوقت تتصاعد وتيرة التحضيرات مع مضي الساعات والدقائق، يبدأ الحماس هنا في البيت حيث التحضيرات الاولية ، ارتداء الملابس الجديدة او ملابس العيد، لحظة الخروج من البيت ، المفاوضات مع سائق سيارة الاجرة ، الاتفاق على سعر الاجرة ، اختيار مكان الجلوس في السيارة، لحظة انطلاق السيارة ، التفرج على مايجري في الشارع من النافذة ، اشارات المرور ، زحام السيارات ، القباب الذهبية التي تلوح من بعد ، خفقان القلوب من هذا المشهد ، الاقتراب من الصحن بعد المرور بالباعه المتجولين ، نداءاتهم العاليه ، رائحة لفات الفلافل والحلاوة الدهينيه. مجاري المياه الاسنة،محلات بيع الذهب، الاقتراب من الدخول للصحن، لافتةعلى الباب العملاق ممنوع دخول السافرات. لم تكن هناك في ذلك الوقت نقطة تفتيش للزائرين، البحث عن مكان في الصحن للجلوس، مهمة عسيرة بسبب اعداد الزائرين الغفيرة ، صوت مكبرات الصوت بالدعاء. وبعد الاستقرار في المكان والجلوس في حلقة دائرية . نحن الاطفال كنا نتفحص المكان بعناية، نادرا ماكنا نجلس، نظل واقفين نتابع الزائرين والحمام الطائر فوق القباب، الخط العربي الذي يزين الجدران، الزخارف الاسلامية البديعة. ثم تأتي اللحظة الحاسمة، الدخول للصحن حفاة ، نسيرعلى بلاط المرمر الناعم وعيوننا معلقة بالثريات المضيئة في السقف العالي،رائحة ماء الورد تعطر المكان، نتوجه نحو الضريح المشع باللون الأخضر ، هنا تكتشف رهبة هذا اللون وكلما اقتربت ازدادت اعداد المتحلقين حول الضريح والدائرين حوله يمسكون بشباكه بقبضاتهم وكأنهم يريدون انتزاعه وبعضهم وخصوصا النسوة يأخذن ركنا قصيا وهن ينتحبن وكان هناك دائما رجال يسمون السدنة يتخذون لهم امكنة استتراتيجية حول الضريح بحيث يسهل عليهم قطع طريق المارة ، يرتدون جبب طويلة سوداء ويعتمرون طرابيش حمراء تحيط بهاعمامة خضراء يعرضون للبيع خرق خضراء بين اصابع ايديهم، كنت اشق طريقي بسهولة في عمر السابعة بين الكتل الآدمية المحشورة في هذا المكان الضيق حول الضريح وحين كنت اصل للشباك امسكه بقبضتي خوفا من الوقوع تحت الارجل ، يمتد ناظري من خلال فتحات الشباك للضريح المطلي بالذهب ثم يتوقف بصري تماما عند السجادة العجميه التي تغطيها القطع النقدية المعدنية والورقية، نقود لاحصر لها، تكاد تسبح فيها ، كنت افكر كم يستغرق من الوقت جمعها ومتى يفعلون ذلك. ثم ماذا يحصل لو اعطوني قطعة واحدة فقط.
في احدى المرات فتحت امي محفظتها ، استلت منها نصف دينار واتجهت نحو الشباك، عرفت ماتنوي فعله، وقفت امامها معترضا طريقها، وصرخت اعطني، سأرميها انا، لم تمانع ابدا ، الجمها الزحام والتدافع وكعادتي مرقت بسهولة بين الزحام وعيني تراقب الرجل ذو العمامة الخضراء عند الزاوية، انه يجعلك تشعر بالذنب حتى لوكنت غيرمذنبا، تشعر بطهارته وانت لاتعرف عنه شئ، ماهذه القدسية التي يحيطون انفسهم بها، من اين تأتي؟ من لحاهم البيضاء ؟ من جببهم السوداء؟ من نظراتهم الصارمة المشككة؟. وانا اصل للشباك وامرر يدي من فتحته بالنصف دينار، قبضة فولاذية تمسك بيدي، صعقت ، توقف عقلي عن التفكير ورجف قلبي، ماذا فعلت؟ ماهو جرمي؟ وقبل كل ذلك من هذا الذي يمسك بيدي بقبضة من حديد؟ رفعت رأسي، انه هو الرجل ذو العمامة الخضراء، سمعت صوته الجهوري يصيح اعطني مابيدك، اعطني النصف دينار، صرخت دون تفكير لالا ، سأرميه من الشباك ،عرفت بحدسي انه يريد ان يضع النصف دينار في جيبه، سحبت يدي من قبضته ورميت بالنصف دينار وانا اراقب نظراته الساخطة التي تفور غيظا. ووجدت امامي فجأة سؤال يقفز لخاطري وانا اعود لامي لماذا يكذب رجل الدين ويسرق وهو الذي تعلم انه لايجوز له ان يكذب او يسرق. لكني لم أعبأ بالحصول على اجابة لسؤالي فقد كنت اعرف ان الفقرة القادمة هي الذهاب لشراء كباب الكاظم مع مرفقاته الخبز والطماطم المشوية بالفحم تجلس على الحصيرة وسط الصحن تأكل بشهية مفتوحه فيما يرتفع صوت الآذان.

ملحوظه:
اعتذر من كل القراء اذا كانت هناك كلمات غير دقيقة وردت في المقال او اي اخطاء لغوية ، فقد انقطعت صلتي بالنحو منذ اكثر من ثلاثين عاما.