18 ديسمبر، 2024 6:14 م

على عكس المعتاد من تكريمٍ واحتفاء مقترن بالعواطف التي تتخذ في بعض الأحيان منحىً درامياً كلما تحدثنا عن الأهل أو الوالدين، سيكون الأبناء في هذا المقال هم محور الحديث بغض النظر عن المرحلة العمرية التي يعيشونها.. ومن دون شك فإن الظروف والأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية في زمننا الحالي مختلفة بشكلٍ جذري عن الزمن الذي ولدنا فيه حيث ازدادت صعوبةً وتشابكاً وتعقيداً وأصبحت كل هذه العناصر متداخلةً حيث يصعب فصل أحدها عن الآخر، كما أن هناك نوعاً من الخلط أو التشتت في معتقدات الجيل الحالي بين ما نشأ عليه وما يراه من حوله الآن حيث يجد صعوبة في الجمع بين هذه المعتقدات، خاصةً عندما يتعلق الأمر بتربية أبنائه الذين لا يعرفون أغلب ما عرفه آبائهم في طفولتهم كونهم ولدوا وسط هذا التقدم التكنولوجي، وفي مرحلةٍ مغايرة حتى على صعيد اجتماعي وفني وثقافي أثر على القيم التي يحملونها كما أثر على الحياة الإنسانية والعاطفية للناس ككل، وعلى تشكيل الأطفال والمراهقين من الناحية الوجدانية والسلوكيات التي باتت أكثر أنانية وانعزالية وتمركزاً حول الذات وأقل حميمية وتفكيراً في الآخرين، حيث اختصر التطور الكثير من الأحاسيس والمراحل التي عشناها والتي كان هناك مغزىً أو معنى لها في ملامح كل مرحلة، وقيمةٍ ما لم تعد متوفرة، فأصبح كل ما حولنا موجوداً بشكله المجرد بعيداً عن الطقوس التي ارتبطت به حتى في مكالمةٍ هاتفية أو إرسال رسالةٍ خاصة كالسابق، وبات أطفال اليوم قادرين على إدارة شؤونهم بطريقة حسابية وعملية جداً لا نستطيع أن نلومهم عليها، فهم أبناء واقعهم والبيئة التي وجدوا أنفسهم فيها سواءاً كانوا ينتمون إلى أسرٍ ميسورة أو متوسطة أو محدودة الدخل..

ولا شك أن الجميع بات يلحظ عدم تفرغ الكثير من الآباء لقضاء الوقت الكافي مع أبنائه، سواءاً كان ذلك بسبب ظروف العمل التي يختارها البعض أحياناً لإدمانه على العمل وتحقيق الترقي والنجاح المهني، أو يضطر إليها في أحايين أخرى لمحاولة تأمين أساسيات متطلبات العيش الكريم، أو حتى بسبب انشغاله وتفضيله للعلاقات الإجتماعية على الأسرية والتي يقود جميعها إلى شرخٍ في العلاقة بين الأبناء وأهلهم خاصةً أن النمو العاطفي والنفسي يكون أكثر هشاشة، ويتضرر بشكلٍ أسهل في الطفولة لعدم قدرة الطفل على تفسير مشاعره أو تبريرها أو تحليلها أو التفريق بينها لذلك ترافق الندوب في الصغر الإنسان لبقية حياته..

وبين الواقع الذي يكابده الأهل على أكثر من صعيد والمشاعر التي تنتاب الطفل بسبب حاجته النفسية إليهم، ومع عقد المقارنات بين الإيجابيات و السلبيات في الماضي والحاضر من ناحية تنشأة الأبناء، إضافة ً إلى إدراك الكثيرين لقدراتهم المادية والنفسية التي تدفعهم للإكتفاء بإنجاب عددٍ قليل من الأطفال أو حتى طفلٍ واحد يتم النظر إلى الحالة برمتها من زاوية واحدة وبطريقة غير موضوعية منحازة إلى الأهل ولا تعطي مجالاً للكثير من الشبان والفتيات للتعبير عن ما يواجهونه ويخافونه ويشعرون به، خاصةً عندما يبدأ وعيهم بالتزايد حول ثقافة المجتمع التي ستعتبر مجرد الشكوى نوعاً من الجحود دون معرفة أي تفاصيل والتي قد يكون الكثير منها كارثياً..

فبرغم كامل التقدير والإحترام للكثير من العائلات التي تبذل جهوداً جبارة لتقوم بتأمين ما يحتاجه أبنائها خاصةً عند وجود عدد كبير منهم.. لكن هل توقف أحدهم رجلاً كان أم إمرأة ليتسائل هل أبنائي سعيدون؟ هل أقدم لهم ما يحتاجونه فعلاً وليس ما أعتقد أنهم يحتاجونه؟ هل يحبونني؟ هل يفخرون بي؟ هل يشعرون بالسعادة والأمان في وجودي؟ هل علاقتي بهم علاقة احتياج مادي أم احتياج عاطفي لأنني أمثل أهم قيمة في نظرهم؟ هل يثقون في آرائي وتفكيري والقيم التي اعتنقها وأؤمن بها ؟ هل يعتبرون أنني أعددتهم بشكل صحيح لمواجهة التحديات التي سيواجهونها في حياتهم؟ هل أحظى بثقتهم واحترامهم بعيداً عن الخوف؟ هل يعتبرونني قدوةً صالحة لهم وجديرة بأن تكون أباً أو أماً ؟ هل هناك لغة مشتركة وحالة حوار وتناغم بيننا؟ هل يشعرون بأن مكاني في قلوبهم قابل للإستبدال أو الإمتلاء بشخصٍ آخر أياً كان ؟ هل يشعرون بأن أحببتهم بالقدر الكافي ؟

وبشكلٍ بديهي ستكون هناك الكثير من الأصوات المعترضة والتي ترفض طرح الفكرة من الأساس استناداً إلى الكثير من الموروثات وإلى تفسير نسبة ليست بالبسيطة من الناس للنصوص الدينية لسلطة الأهل على أنها سلطة مطلقة لا يجب مناقشتها (وهو ما ليس صحيحاً ولا يتعدى كونه واحدة من المسائل التي تنسب إلى الدين لتبرير أو إعطاء بعض الأفكار والقضايا صفة القداسة لتكون بمنأى عن النقد والمحاسبة)، وبالطبع فإن دور الوالدين بشكلٍ خاص والعائلة بشكلٍ عام هو دورٌ أساسي وجوهري والأكثر أهميةً وتأثيراً في تشكيل وجدان وشخصية ومعتقدات أي طفل، ولكننا ومع تزايد الوعي وملاحظة الكثير من المتغيرات الإجتماعية بتنا نلحظ تحولات جذرية في مفهوم الأبوة والأمومة، إضافة ً إلى أن تجارب الأجيال السابقة بدأت تطفو على السطح وبدأ الكثيرون يتحدثون عنها بإنفتاح وصراحة حتى في مراحل النضوج والحكمة مستعيدين تجارب طفولتهم..

ومع أن العامل المادي عامل أساسي ورئيسي وجزء من واجب الأهل تجاه أطفالهم وأحد أهم الأسباب التي تؤثر على استقرار أي إنسان، إلاّ أن الكثير من أطفال اليوم يعانون بسبب معتقدات أهلهم وطريقة تفكيرهم ومقاربتهم للأمور، حيث تتحول العلاقة التي يفترض أن تبنى على العاطفة غير المشروطة إلى ما يشبه (لدى البعض) ذريعة لرسم مسار حياتهم بشكل كامل دون أن يكون لهم قرار فيها، كما أن الأطفال أصبحوا مفتقدين للعاطفة والروابط الأسرية خاصةً في هذا الزمن الذي تطغى فيه الماديات على علاقات البشر ببعضهم، وهو ما يهزهم من الداخل كونهم لم يشبعوا بتلك المشاعر التي قد يبحثون عنها خارج منزلهم وقد تتسبب في ضياعهم دون أن يجدوها أو يجدوا أنفسهم، ولا يستطيع أغلبهم أن يصارح عائلته بأنه يحتاج وجودهم بعيداً عن أي ذكر للمادة..

ويزداد الأمر سوءاً عندما يقرر الكثير من الأزواج إنجاب الأطفال رغم عدم وجود أي توافق بينهم منذ البداية، وعدم وجود أي إمكانات مادية أو دخل ثابت مهما كان متواضعاً، إلى جانب انعدام الوعي وتحمل المسؤولية الأخلاقية والتربوية تجاه أبنائهم، ناهيك عن بعض النماذج التي تنجب لتحقيق استفادة مادية من هذا الإنجاب أو تشغيل هؤلاء الأطفال في سن صغير، بينما قد يظل (الرجل) نائماً طيلة اليوم ليقبض حصيلة ما جناه كل طفل ليلاً عندما يبدأ يومه في الوقت الذي يعودون فيه منهكين بحثاً عن الراحة..

ليعيش أغلب هذه النماذج بمنطق (كل الأطفال ستكبر وتنسى، الشدة على الطفل تصنع الأقوياء، هذا الطفل سيتربى كبقية الأطفال، لا أحد ينام بلا طعام) في صورة لحالات يجب أن تنتهي وظواهر ينبغي اجتثاثها ومحاربتها كالإرهاب، لأنها ترسخ وتؤسس لجيل بلا بوصلة أو اتجاه وفي حالة ضياع وتشتت بين عالم يتقدم ويتغير بسرعة مذهلة لا ترحم ونشئة تتسم بالرجعية والتخلف وغياب الحس الإنساني وإهدار حقوق الطفل وخلق نموذج مضطرب قد يصنع منه مجرماً إذا لم يتم احتوائه، والنماذج حولنا تكاد لا تعد من حيث عمالة الأطفال المحرومين من كل حقوقهم، فيما لا يزال الكثير يؤمن وسط هذا الواقع أن مجرد إنجاب أي شخصين لطفل يعطيهم كل الحق في التعامل معه كما يريدون حتى وإن كانوا يؤذونه وهو محض افتراء وكذب، وبما أن الحديث عن الأبناء فكلنا يعرف أن عدم الإنجاب ليس بجريمة لكن الجريمة الحقيقية تكمن في انجابه وسلبه كافة حقوقه وعدم تحمل مسؤوليته والقيام بتربيته على أكمل وجه، وفي ظل وجود يوم للأم ويوم للأب ينبغي أن يكون هناك يوم للأبناء على الأقل لأولئك المحرومين الذين لا صوت لهم..