22 ديسمبر، 2024 10:55 م

يوم كان التوراة زقاقا

يوم كان التوراة زقاقا

للمرة الثالثة وبفترة قياسية، تعود مرة أخرى لتضل الطريق الرابط بين بيتها وبناية السراي، على الرغم من توجيهات (هدَّو) المتكررة لها بعدم المجازفة والمجيء اليه تحت أي ظرف. وإذا ما كنت مضطرة، يقول لها، فيمكنك الإستعانة بأحد أولادك، الاّ انَّ زوجته لم تصغِِ له وستبقى مصرة على القيام بما تعتقده صحيحاً، ولتتحمل بعدها نتائج ما سيترتب على عنادها. أمّا دافعها والذي لا يريد (هدَّو) الإعتراف به هو شعورها العالي بالمسؤولية إتجاهه، فهو الآن بحاجة ماسة الى وجبة طعام دسمة، تعينه على القيام بوظيفته على أكمل وجه، خاصة بعد أن حُرم من وجبة الصباح، حتى وإن تظاهر بعكس ذلك.
بمجرد أن أخذت الشمس مدارا عموديا ووصل مسامعها آذان الظهر ومن مختلف مساجد المدينة القريبة، قدَّرت زوجته أن النهار قد بلغ منتصفه وأصبح الوقت مناسباً ليحسَّ (هدَّو) بخواء بطنه، لذا شرعت بالتهيأة والتجهيز واعداد وجبة دسمة، ريثما يأتون أولادها من المدرسة، ومن بعد ستترك صغارها الثلاثة بحماية بعضهم بعضا، ملقية عليهم بعض من الوصايا والتعليمات المهمة، وبلغة لا تخلو من تهديد ووعيد، وبعاقبة لا تستثني منهم أحدا إن عصوا أمرها، مضيفة وبتشدد بأن العقوبة ستطالهم ثلاثتهم وبنفس المستوى، بصرف النظر عمن سيكون المسبب في إحداث أي مشكلة، دون أن تستثني من ذلك حتى صغير أبناءها ومُدللها.
خرجت من دارها على عجل، غالقة الباب الخارجية بإحكام وبقفل لايقل وزنه عن كيلوغرامين، تعود صناعته الى عقدين من الزمان على أقل تقدير. لونه أسود، لم يكن طوع يديها عندما حاولت التعامل معه في بادىء الأمر، بسبب الصدأ الذي غطّى طلائه واخترق حتى وصل جوفه، ينتمي الى جيل أكل الدهر عليه وشرب. تذكرت نجية(هذا هو اسمها) أثناء قيامها بغلق الباب بأنَّ (هدَّو) قد نذر وتعهد لها ذات يوم، بأنه سوف يبدّل القفل القديم بأحدث منه، بعد أن يستلم أول راتب، ولكنه أخلف الميعاد ولم يقدم على ذلك، رغم مرور أشهر عديدة على تعيينه.
ولأن زقاقهم الضيق أصلا ينحدر بشدة نحو الأسفل، فقد بذلت جهداً مضاعفاً حتى وصولها صعودا الى مدخله. وبسبب إرتباكها وبدلا من أن تنعطف نجية يساراً بناءاً والتزاماً بتوجيهات زوجها وإختصاراً للطريق، تجدها متجهة نحو اليمين، وعندما سألها هدَّو فيما بعد عن سبب تكرار ذات الخطأ، ألقت باللائمة على إحدى جاراتها التي أرشدتها بأن تسلك طريقاً آخر، أكثر راحة واختصارا، لكنه وللأسف لم يفضِ الى ما تريد وترغب، مما جعلها تتيه مرة أخرى، وكان خطأها على ما اعترفت به، بأنها إنعطفت مع التواء الشارع، ثم حاولت إستدراك الطريق لكنها لم توفق في الوصول الى مبتغاها.
بعد أن أدركت ما ارتكبته قدماها من خطأٍ، حاولت نجية تصحيح مسارها لكنها وجدت نفسها وقد دخلت زقاقا صغيراً آخر يسمى بالتوراة، نسبة الى ساكنيه من يهود مدينتها، لتجده مغلقاً من طرفه الآخر، مهجورا منذ سنوات بعيدة. أوشكت نجية أن تطرق أحد أبوابه، ففيما مضى كانت على صداقة وثيقة مع إبنتهم الوسطى، الا انها تذكرت بأن أهل هذا البيت ومَنْ يجاوره قد غادروه رغماً عنهم الى جهة ما خارج البلاد.
وقفت لبرهة في منتصف الزقاق، لا تعرف كم أستغرقت من الوقت. أجالت بعينيها منزل صديقتها، ماسحة بابه صعودا ونزولا. أطالت النظر في إحدى نوافذه الزجاجية المهشمة، علّها تعثر على أحد ما من أهله، ثم راحت مطرقة نظرها أرضا لتستعيد في ذاكرتها بعض خطوط من الطباشير يوم كن يتقافزن وهن فرحات، مرحات بين مربعاته المرسومة بكل ألوان الزهو. إسترقت النظر، تلفّتت يمينا ويسارا، كادت أن تخلع عباءتها وتضعها جانبا لتلعب (التوكي) وتقفز قفزتين فقط بين مربعين ولتسأل الواقفات من زميلاتها ممن يشاركنها البهجة: كبي؟ ليأتيها الجواب بــ(نو أو يس) كما كان يصلها حين طفولتها، لكنها تراجعت في اللحظة اﻷخيرة خشية أن يراها أحدهم.
خَطَتْ نحو باب البيت الخشبي العتيق لتطيل ملامسته براحة كفها اليمنى، تلتها بعدها بالراحتين. اسم صديقتها (حبيبة) لا زال محفورا رغم تشققات الباب الذي كاد أن يمحي أثره. يداها لم تعد ناعمتان كما كانت صغيرة، كلانا كبُرَ، هذا ما همست به نجية للباب. تراجعت خطوتين بعد أن إستنشقت منه ما حسبته عبقا معتقا باﻷحبة، لعله سيعيد لها بعض ما فات. لا تستكثروا على المرأة تصرفها هذا، والذي قد تجدون فيه بعض غرابة أو تذهبون بها الى أبعد من ذلك والى ما يساء الظن بها، لكنها هي هكذا. وإذا أردنا الغوص أكثر، ففي سابقة لها وحين التقت بإحدى أقرب صديقاتها وبعد فراق دام طويلا، أصرت نجية على إصطحابها الى بيتها والقيام بما يلزم، عرفانا لتلك الصحبة ولتلك اﻷيام التي خلت. فهي البسيطة والعفوية في سلوكها، وكذلك الوفية لرجعها البعيد، والوفية أكثر لكل صداقاتهاحين كانت صغيرة.
أبت مبارحته فــ(نجية) لا زالت هناك قبالة البيت الذي غادره أهله مجبرين. رفعت رأسها عاليا بإتجاه سطح المنزل، تراءت لها من علٍّ غرة إحدى الشجيرات الباسقات، انها شجرة البرتقال: آه كم أنت صابرة، غير انَّ نضارتك وللأسف قد غادرت هي اﻷخرى مع مَنْ غادر المكان، لا أحد يسقيك. أتذكرين ايتها الشجرة كَمْ كنّا سعداء في طفولتنا؟ كنّا نطير سوية كما سرب الحمام ثم نحط ونطير ثانية، كنّا نشبه ألوان الطيف السبعة، بل كنّا أجمل من القوس قزح وأجمل من باقات الورد.
غاصت في رجعها، ناسية ما الذي أوصلها الى هنا بعد فراق سنين: كان هذا الزقاق يضمُّ بين جنباته كنيس قديم يعود لأتباع النبي موسى عليه السلام. قالت في سرّها: كان لنا أخوة هنا، وكان الزمان حلوا.. حلوا، تُرى مَنْ سيعيده الينا؟. حبست دمعة، شعرت بحالة من الحزن واﻷسى على فراق أهل هذا البيت وَمَن جاوره. بعد مضي ما يقارب الدقائق العشر، تنبَّهت على نحو مفاجئ وخاطف الى طبيعة المهمة التي ينبغي القيام بها، لتجد نفسها وقد عادت أدراجها بسرعة الى حيث المكان الذي إنطلقت منه وهي في حالة من القلق والإرتباك.
توقفت لتعيد حساباتها مرة ثانية. سلكت من جديد ما افترضته الشارع الذي سيفضي بها الى مبتغاها، غير انها راحت في دوامة أخرى من التيه. أخيرا اهتدت وبعد مرور قرابة الساعة والنصف من الوقت الى ضالتها ولكن بمساعدة أحد أصدقاء ولدها الكبير. وحين بانَ لها جلياً البناء الذي يعمل بداخله (هدَّو)، وشعرت بإطمئنان تام وتأكدت من عدم تكرار أي خطأ أو إلتباس في العثور على ما تريد ومن الوصول الى غايتها، التفتت الى مَنْ ساعدها لتقدم له واجب الشكر والثناء على ما قدمه من معروف، مقترحة عليه الإلتحاق بأولادها الثلاثة كي يلعبون سوية داخل البيت، ناسية انها قد أغلقت عليهم الباب، غير انه إعتذر.