23 ديسمبر، 2024 7:11 ص

يشهد العراق من شماله الى جنوبه ومن غربه الى شرقه ، وعلى نحو متصاعد يوما بعد يوم ، ما يحسب ، انتفاضة شعبية صامته ، انتفاضة قد تكون في غاية الحساسية ، انتفاضة تخص الانسان العراقي ، ومستقبل الشعب العراقي ككل. الانتفاضة التي ولدت صغيرة ثم كبرت تدريجيا على خلفية العملية السياسية القائمة حاليا وركنها الأساسي المحاصصة الطائفية والإثنية وما أثمرت عنه من فساد.

ويتساوى في هذا الوعي الفكري والاجتماعي ، كل الناس وفِي كل مكان من العراق ، بغض النظر عن الأصول العرقية والتنوعات الثقافية والحالة الاجتماعية. ويمكن ان توصف هذه التطورات بعودة الوعي الى الشعب العراقي ، بعد ان سلبته منه عدة عوامل داخلية وخارجية مجتمعه في الفترة القليلة الماضية ، والتي كان ذروتها الصراع الذي نشب بين ابناء الشعب العراقي على وفق التنوع الثقافي والعرقي. وقطعا لم يكن للفساد ان يتوسع وينتشر في العراق ولحد غير مسبوق في العالم لولا ان تسانده البيئتين الطائفية والعرقية المتصدرتين للمشهد العراقي.

ومن غير شك ان خلق هذا الصراع الطائفي والآخر العنصري قد تم تدبيره من قبل المراكز الدولية التي خططت للاحتلال وكذلك المراكز الإقليمية المستفيدة منه ، وأشاعه الأفراد والكيانات التي يهمها هذه الصراعات من اجل ان تبني عليها أهدافها وطموحاتها المريضة.

ومن اللافت للنظر والمفرح بنفس الوقت ايضا ، ان التدبير شيء والنتائج النهائية التي نشأت عنه شيء اخر. ان العمود الفقري والقاعدة الاساسية لهذه الانتفاضة الصامته ، وما تحمله في طياتها من تحولات فكرية ووطنية خالصة هم الشباب.

ان الخطوة الاولى التي ينتظرها الشباب من النخب العراقية ، كل النخب الاجتماعية والثقافية والمهنية ، ان تقدم لهم هذه النخب ، المشورة والرأي السديد، المشورة التي تدعم هذا العصيان الشعبي الناشيء ، وتوجه الشباب كل الشباب ، بما يمكنهم من نقل انتفاضتهم من مرحلة التعبير الفردي والعفوي الذي يجري حاليا هنا وهناك ، الى مرحلة التنظيم الجماهيري الوطني العابر للطائفية والعرقية. التوجيه الذي يحول العصيان الشعبي البدائي الى تنظيم جماهيري وطني هادف ، التوجيه الذي يسعى الى تحقيق مجتمع متنوع الثقافات والاعراق ، ويسعى الى تحقيق مجتمع واحد معياره المواطنة التي تقوم على أساس (١) المساواة بين جميع أبناء الشعب العراقي في الحقوق والواجبات. (٢) المساواة بين المرأة والرجل. (٣) عدم التمييز بين المواطنين والمواطنات كافة على وفق الأصول والثقافات.

والخطوة الثانية المنتظرة من النخب ، والتي لا تقل أهمية عن الخطوة الاولى ، وربما تزيد عليها ، هي كيفية صيانة وتسليح الانتفاضة الشبابية الشعبية بوجه المؤامرات الداخلية والخارجية التي كما أسلفنا تسعى جاهدة الى استهدافها والنيل منها لابقاء العراق حبيس الصراعات الداخلية وثمرتها الفساد.

أين نحن من هذا كله الان والأقلام العراقية ، معظم الاقلام ، قد انصرفت عن مهمتها الاساسية المذكورة في أعلاه ، وانشغلت بتوصيف وتحليل الانشقاقات الوهمية الجارية في الكيانات والتنظيمات السياسية والحزبية القائمة اليوم على الساحة العراقية؟ فهذا ينشق عن هذا الكيان والآخر ينشق عن ذاك. فهل بأمكان هؤلاء الأشخاص وتلك الكيانات ، كل الكيانات ، القائمة والمستحدثة ، ان تلبي الان ، بعد ان عجزت في الماضي ، ان تلبي طموحات الشعب العراقي في البقاء ، وفِي الحياة الحرة الكريمة؟ من أعاقها في الامس عن تحقيق ذلك ، ومن أعاقها عن ان تُمارس دورها الوطني الذي كانت تدعو اليه ليل نهار ، والآن لتبدأ صفحة جديدة من التحشيد الذي لم ولن يؤدي الى غير استحداث نسخة مستنسخة عن الفساد والفشل والاحباط الذي جاءت به ومارسته في الماضي.

ماذا يعني تغيير الأسماء طالما ان الأشخاص وافكارهم هي هي. ان هذه الصورة السائدة الان في العراق مقتبسة عن الصورة التي سادت في تركيا في النصف الثاني من القرن الماضي. فكان زعماء الأحزاب السياسية يغيرون اسماء احزابهم بعد كل انقلاب عسكري يتم في تركيا ، الذي كان اول ما يعمل ، ان يحضر الأحزاب السياسية القائمة في حينه وزعمائها عن ممارسة العمل السياسي ، فيعود هؤلاء الزعماء الى تشكيل احزابهم من جديد تحت مسميات جديدة حال رفع الحظر الذي يفرضه الانقلاب العسكري عليهم ، وتكون الأحزاب الجديدة نسخة مستنسخة عن الأحزاب المنحلة ، ولكن تحت لافتات جديدة. وربما كان للاتراك عذرهم ، ان الانقلابات العسكرية قد ألغت تنظيماتهم السابقة ، فما تبرير أشخاص وكيانات العراق اليوم لتحدث التغيير؟

الى متى تبقى بعض الاقلام العراقية ، وكلها واعية ، تسهم عن ادراك او من غير ادراك ، في تلبية الأهداف المريضة لهذا الشخص او ذاك ، او لهذه المجموعة او تلك. تسهم في تضليل الشعب حيال المرامي المريضة لبعض الأشخاص وبعض الكيانات السياسية؟ الم يحن الاوان ، لنقف وقفة تتناسب والمرحلة الصعبة التي نعيشها حاليا ، ونقول كفى للتضليل الذي يخيم علَى الشعب العراقي كافة ، التضليل الذي ينقل العراق بأستمرار من سيّء الى اسوء بدلا من ان ينقله الى الأمن والرفاه.

مبادرات وطنية تمليء الارض الان هنا وهناك في العراق ، وكلها تدعو للوحدة الوطنية والإصلاح ، وتدعو الى نبذ الممارسات الشاذة والغريبة التي ابتلى بها الشعب العراقي مؤخرا. فهل المواطن العراقي المبتلى في يومنا هذا قادر لوحده ان يميز النافع عن الطالح من الكم الهائل من المبادرات المتداولة؟ أين دور النخب العراقية من كل هذا؟ هل تترك الممارسات السابقة ومثيلاتها الجديدة حرة طليقة لتواصل تنفيذ مخططاتها المرسومة والتي تسعى جاهدة الى النيل من الشعب العراقي في وحدته الوطنية وسرقة ثرواته التي انعم الله بها عليه.

فأيهما الأفضل ان نبقى على هذه الشاكلة التي لا يخرج عنها غير صب المزيد من الزيت على النار التي هي أصلا مستعرة ، ام نتوجه الى تحليل وتصويب المبادرات الوطنية حتى يصار الى تنوير الشباب العراقي في كل ارجاء العراق ليختاروا من بين المبادرات ما يلبي رغبة المجتمع العراقي في الأمن والاستقرار والرفاه ، يختاروا من بينها تِلْك التي تمد الجسور لربط أطراف الشعب العراقي من جديد.

انها مسئولية تاريخية تتحملها النخب العراقية ، كل النخب ، أينما كانت ، لتنوير الدرب امام ابناء الشعب العراقي كافة حتى يستطيع ان يميز بين الصالح والطالح من الفرقاء المتنافسة على إدارة البلاد وضمان التزام تلك الفرقاء بالعهود التي يقطعوها على أنفسهم.

الشباب ، كل الشباب ، لا يريدون ان يقرأوا ما يروى عن الفساد وعن الطائفية البغيضة وعن التعصب العنصري الأعمى ، وعرابها ، انهم يلامسوها ليل نهار ويكتون بنارها ، وأنهم ضحيتها قبل غيرهم من ابناء الشعب العراقي الآخرين. انهم يريدون ان يقرأوا كيف يمكن انتشالهم من المستنقع الذي وجدوا أنفسهم فيه. انهم يريدوا ان يقرأوا كيف يمكن ان يترجم فورانهم الى حركة وطنية فاعلة تحدث تحولات اجتماعية ملموسة طال انتظارها. الشباب يريد ان يسمع ان يوم غد يوم اخر.