(83) عاما مرت وعلم العراق يتأرجح بأراجيح حكامه.. بين ملك ووصي ورئيس وزراء ورئيس جمهورية، وقد كان صنيع اغلبهم به لاتحتمله قطعة قماش ولا كتلة اسمنتية ولاحتى حديدية..! هذا ديدن علمنا منذ الثالث من تشرين الأول من عام 1932. إذ رفع في هذا اليوم اول علم عراقي فوق سارية مقر عصبة الأمم المتحدة مع أعلام الدول الأخرى، حيث صدر قرار مجلس عصبة الأمم بقبول العراق عضوا مستقلا فيها، بعد إلغاء الانتداب البريطاني على العراق. وقد عُد دخول العراق عصبة الأمم كأول دولة عربية مستقلة آنذاك، مكسبا وطنيا وقوميا بارزا، وأظن ان الفرحة تغمر كل مواطن يشعر بالانتماء الى هذا البلد، وتملأ الغبطة قلبه حين سماعه خبرا مثل هذا، سواء أكان هذا بالأمس ام اليوم ام غدا!. وقد بشر ملك العراق فيصل الأول حينها الشعب العراقي وقال مانصه: إن العراق أصبح حرا طليقا، لاسيد عليه غير إرادته.. نحن احرار، مستقلون). وطلب من الصحفيين أن يكتبوا ذلك إلى الشعب بأحرف بارزة قائلا لهم: (اذهبوا بين إخوانكم وانشروا عليهم كلماتي هذه.. إنني وبلادي مستقلون، لاشريك لنا في مصالحنا، ولارقيب علينا بعد دخولنا عصبة الأمم إلا الله سبحانه وتعالى.
وما من عراقي سوي لايفرح لخبر او حدث يعود لعراقه بالخير، او يحقق له الأمن والاستقرار، وإبعاد الشريرين عنه ووضع القيود والأصفاد في أقدام وأيادي من تمكن منهم في غفلة من الزمن من تنفيذ مخطط معادٍ، اوهدف شخصي اوفئوي اواقليمي، يبتغي النيل من ترابه اومن حقوقه او سيادته بين الدول. وقطعا كل هذا من شأنه ديمومة اشتراك العراق مع باقي الامم في السير معا في ركب التطور الحضاري، من دونما عراقلة او تلكؤ او تقهقر، يفصل العراق عن باقي الدول، ويضعه في رفوف المقاطعات والممنوعات والمحظورات ببنودها وفصولها التي عهدناها، كما حدث ويحدث منذ ستينيات القرن المنصرم، يوم جثم على صدر العراق شبح البعث بنظامه القمعي الدكتاتوري، الذي حقق مقاطعة المجتمع الدولي للعراق رسميا عام 1991 نتيجة عنجهيات قائده الضرورة وبهلوانياته الرعناء غير المدروسة.
وعلى هذا المنوال أتت وجوه وشخصيات حكمت العراق والعراقيين، ورحلت أخرى وتبدلت حكومات منها أحسن من سابقتها ومنها أسوأ، والعراقي المسكين بين من يصفق للجيد والحسن منهم، وبين من يثور ويتظاهر على السيئ من دون جدوى، فيما كان ساسته يستمرون في تقليبه بين أسنة رماحهم ويتقلبون عليه، واضعين مصلحته في أسفل فقرات جداول أعمالهم، وكيف لا..! وكعكة العراق عامرة بصنوف الخيرات والمغريات أمامهم.
هكذا هي سيرة شعب وادي الرافدين العريق، وهكذا يعيش أبناء بلاد مابين النهرين الموغل في الحضارات والقدم، فالاحتلالات رافقت العراقيين (من الگماط) إذ ما إن خرجوا من احتلال إلا وقعوا تحت ظلام الانتداب وهو وجه آخر من وجوه الاحتلال، وما إن تخلصوا من انتداب علني صريح حتى وقعوا تحت أسر انتداب مبطن، وحين شعت في طريقهم أنوار الحكم النزيه والشريف أواخر الخمسينيات، سارع الى إطفائها طغمة من عصابات البعث، فتمركز منذ ذاك الحين نظام دكتاتوري دموي في مفاصل البلد، وراح يعيث فيها فسادا وخرابا وتخريبا لبنية الإنسان العراقي، وهي خطة مرسومة كان قد أعلن عنها رئيس النظام المقبور حين قالها بلسانه: (سأسلِّم العراق ترابا)، وقطعا هو لايقصد الأبنية والجسور والبنى، إذ كان المقصود الإنسان العراقي كأصغر خلية في بنية المجتمع، فراح يحاصره بأساليب العيش لينتزع منه القيم الأصيلة والمثل السامية، ويزرع بدلها طبائع وسمات شذت عما ترعرع عليه، لم تكن مألوفة عند آبائه وأجداده، وهي التي نرى بعضها في يومنا هذا متفشيا بين كثير من العراقيين.
اليوم وبعد ثلاثة وثمانين عاما تذبذب فيه الحكم والحكام، وظهرت على سطح العراق خصال غير حميدة، وعلا زبد وطافت جيف لم يعهدها العراقيون من قبل، أما آن لعلم العراق أن يرفرف معلنا استئصال مازرعه السابقون السيئون؟.. ومتى يأتي اليوم الذي يستظل تحته المواطن مطمئنا لحاضره ومستقبله؟ وهل تلد أمهات العراق قائدا -شريفا- يمسك لواءه من جديد؟ أسئلة علينا نحن العراقيين جميعا الإجابة عليها.