18 ديسمبر، 2024 8:42 م

يختلف العقل مع القلب أحياناً في موضوع ما. فالقلب يعشق حيناً والعقل يأبى القبول، وتارة تجد أن العقل يخطط والقلب رافض. إلاّ أن قلبي وعقلي متفقان في نقطة وهي العيش في الماضي والبقاء فيه وعدم مغادرته، فلا القلب يغادر الحنين ولا العقل يريد أن يخلع عنه رداء الماضي التليد.

هكذا كان ليوم الخميس نكهته الخاصة من دون بقية الأيام. هذه النكهة التي تركت أثراً في نفسي ولا تحل محلها أية نكهة أخرى. لا أدري لماذا وما السبب، لكن ليوم الخميس فرحة وبهجة لا يمكن أن تتميز بها بقية الأيام في الأسبوع. قد يكون اليوم التالي هو الجمعة والجمعة العطلة الوحيدة في الأسبوع.

وأنا في المرحلة الابتدائية كنا نذهب إلى المدرسة يوم الخميس ونحن فرحين. ونقضي اليوم على امل ألخروج من المدرسة إلى البيت وكأننا في غرة عيد الأضحى أو عيد الفطر المبارك، وكل أسبوع وكل خميس نعيش هذه النشأة والفرحة دون نقصان.

أمي كانت معلمتي في المرحلة الابتدائية، كنا نعود إلى البيت معا في الأغلب إلاّ يوم الخميس، كنت أخرج راكضاً سالكاً طريق البيت دون أن أنتظرها لكي لا أفوت على نفسي متعة مشاهدة (سينما الأطفال). اهرول مسرعاً للاستماع إلى شرح فلم الأطفال المعد لهذا الأسبوع من قبل مقدمة البرنامج (نسرين جورج). كانت (نسرين جورج) تقدم شرحاً جميلا وبكل هدوء عن الفلم وأبطال الفلم وتشدنا إلى مشاهدته ونحن على علم مسبق بالدراما الجميلة التي يحتويها هذا الفلم.

 

من طقوس الخميس كذلك الحمام العجيب الذي لا يعادله في الحلاوة أحدث حمامات الساونا في يومنا هذا. الحمام الذي يسخن بالنفط الابيض والذي يمتلئ بالبخار وصوت اشتعال (البريمز) يملئ البيت وهي الواسطة التي تسخن الماء وجو الحمام. أمي تهيء كل شيء من الملابس وتدفئة الغرفة للجلوس بعد الاستحمام وما علينا نحن إلاّ الاستمتاع بهذه الأجواء.

ويحل المساء ويأتي والدي إلى البيت ومن ثم وجبة العشاء الفاخرة والنادرة بطعمها لنجلس بعدها جميعا حول مدفئة (علاء الدين) النفطية، إلاّ أمي التي تستمر في العمل. كانت لدينا قناتين تلفزيونيتين فقط لا غيرهما. كانت هذه القناتين تعدان برامج خاصة ليوم الخميس من أغاني عراقية عجيبة والتي تصل إلى الروح قبل المسامع. كنا نجلس ونسمع (مرينا بيكم حمد أو اعزاز من ياس خضر) أو نستمع إلى (مالي شغل بالسوق مرت اشوفك من حسين نعمة) أو نسمع (أمل خضير وهي تقول أحاول أنسى حبك والقلب ما يريد) أو (سلامات من حميد منصور) أو نسمع (مرة ومرة أو من تزعل للراحل رياض احمد) وكذلك (عد وانا أعد ونشوف ياهو اكثر هموم بصوت الرائعة انوار عبد الوهاب) وغيره من النغم العراقي الشجي. حتى تشير عقارب الساعة إلى التاسعة مساءا\ لتخبرنا المذيعة خمائل محسن عن موعدنا مع برنامج (عدسة الفن) والذي تقدمه (خيرية حبيب) لنستمع الى اخر الاخبار الفنية والتي ما زالت موسيقى البرنامج يرن في اذني حتى الساعة وستبقى حتى الساعة. بعد المشاهدة الممتعة لعدسة الفن لمدة ساعة كاملة يحن موعد الأخبار المسائية وبعدها فلم السهرة. أبي لا يمنعنا من مشاهدة فلم السهرة لأن اليوم خميس وغداً الجمعة والجمعة عطلة وهذا اليوم متنفس لنا من الدراسة والتعب.

 

تنتهي الجلسة الخميسية النفيسة الذهبية هذه بحدود الساعة الحادية عشر والنصف مساءً، لنفترش بعدها مضاجعنا الناعمة الدافئة بجهد أمي وتعب أبي. نخلد بعدها إلى نوم رغيد هانئ آمن ونحن على موعد مع أجمل الرؤى الوردية والتي تسعدنا حتى في نومنا.

 

التعب عندها كانت راحة وحتى للمرارة طعم النعناع. لا همّ لنا في الدنيا وكأن الدنيا كانت غير هذه الدنيا والسموات غير السموات، كأن البشر ملاك والأشجار تثمر الياقوت الاستبرق. أحس أنني كنت أملك جناحين أطير بهما محلقاً فوق الغيوم البيضاء، أمطر معها أينما أريد وكيما أشاء. كنت أحس بخفة الوزن وخفة الدم وإن كل شيء بحسب أهوائي.

رغم تقدم العمر وبلوغنا أشده، وفي حنظل هذه الأيام، لم أنسى شيئاً من بلسم ذاك الماضي. الماضي الذي كان مزيناً بالأقحوان وأجواء تفوح بعطر المسك والعنبر. الذكريات تجدد نفسها بنفسها وتأخذني الخيالات إلى عالم عشته قبل عقود ويبدو أنني لم أغادره حتى اللحظة. جسدي وإن كان في هذا الزمن، إلاّ أن روحي لم يفارق الماضي وما زال يعيش في كنف أبي وأحضان أمي ولا يتمكن من مغادرته وكأنه قد القي به في غيابةِ الجب ليلتقطه السيارة إن كانوا فاعلين.