16 سبتمبر، 2024 9:57 م
Search
Close this search box.

يوم أنشدنا في ردهة الجرحى ” زعلان الأسمر ما يكلي مرحبا “

يوم أنشدنا في ردهة الجرحى ” زعلان الأسمر ما يكلي مرحبا “

بين كراجي النهضة والعلاوي وسط العاصمة العراقية بغداد ، هنالك جسر معنوي موحد مأزوم بمثابة خط شروع الى جبهات القتال نحو قواطع العمليات الشمالية او الجنوبية معلوم ، برزخ يمر تارة فوق جسر الشهداء وأخرى فوق الجمهورية أو السنك أو التحرير أو الباب المعظم ذهابا وإيابا ، جسر متخيل موهوم عبرته الاف الأرواح والجنود المجندة التي تلبس أجسادا وتتقمص كتلا بشرية زائغة النظرات محصورة بين ( البيرية والبسطال ) ، منهم من عاد لاحقا الى أهله وبيته وعياله بنصف جسد أو بكامله ومنهم من لم يعد الى أبد الآبدين وأنى له أن يعود، فيما لاتزال امرأة وفية لذكراه العطرة من أهل بيته قد تكون أما او اختا او ابنة او زوجة تبكي صوره طفلا ، تقلب دفاتره يافعا ، تشم ملابسه شابا ووو تشعل على شاهد قبره الرمزي أو الحقيقي أعواد بخور  وشموع وهي تخط بالحناء قصائد مزدانة بالآس في  رثاء مواطن توارى عن الوجود ذات ضياع ووووطن مازال يحارب ويخوض حروبه وأخاله سيظل الى ما لانهاية !!
هناك فوق الجسر الروحي كنت أقف متأملا في فلسفة الحرب والسلام ، متمعنا في تلك الوجوه الشاحبة ذات العيون الجاحظة المحاطة بهالات سود ، وجوه متعبة كتب عليها دخول حرب تلو أخرى يدفع خلالها الجنود دماءهم ثمنا لشهرة قائدهم ومرجعهم وممثلهم في البرلمان او المجلس الوطني او مجلس الأعيان او اي – عش غراب أسود – شيد من أموال الشعب المسروقة ، يقهقه تحت قبته ثلة من مسعري الحروب ولصوصها ويتبادلون فيما بينهم عصائر النصر الطبيعية او قهوة الهزيمة  المرة بحسب مجريات الأحداث في ميادين القتال ، كيف لا و كما يقول الروائي والصحفي البريطاني جورج اورويل ” تصدر كل دعاية الحرب والصراخ والكذب والكراهية عمن لا يحاربون” .
لاشك ان الحرب وكوارثها تصدر عن أولئك الذين يؤججون نيرانها وهم يتناولون البيتزا والمشمر والمحمر وشعارهم ” فإن النار بالعودين تُذكى .. وإن الحرب مبدؤها كلام ” ، واضيف  .. طعام !! ، في ذات الوقت الذي يرسلون به أبناءهم الى جامعات لندن وباريس وبرلين وموسكو وبيروت ليكونوا بمأمن من شرورها بذريعة اكمال متطلبات دراسة الماجستير والدكتوراه ، هناك  في ملاهي وصالات قمار وخمارات وكازينوهات العواصم المذكورة ليلا وفي اروقة جامعاتها نهارا يغنون على رنين كؤوس الخمر وتحت غمامات السيجار الكوبي والمارجوانا الكولومبية بمعية الشقراوات ( أحنا مشينا  مشينا للحرب ..عاشق يدافع من أجل محبوبته واحنه مشينا للحرب !!) ،  عمي هاي يا حرب منهن ؟!  حرب الشيراتون والميريديان والميليا منصور وفندق الرشيد وبابل  ونادي الصيد والعلوية ، او حرب  ملاهي وكابريهات الف ليلة وليلة والطاحونة الحمراء والأمباسي ، أيهما فهم كثر  ؟؟حقا وكما قال الشاعر والفيلسوف الفرنسي ، بول فاليري ” الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم ولكنهم لا يقتلون بعضهم بعضا ” .
ذات جحيم وعلى غير العادة وجدت نفسي أعبر الجنود المجندة ولكن هذه المرة ليس الى صومعة التأملات وانما الى كهف الجبهات ، ومن خندق الى آخر ..من جبهة الى أخرى …من حقل ألغام الى أرض حرام …تنتهي معركة طاحنة فأصحو على بوق معركة ملتهبة ساخنة جديدة أزج بها قسرا معتمرا  منذ فجر الأرض خوذتي ووصية الفقراء فوق نطاقي ، كنت أتفحص جسدي في كل مرة لأتأكد هل فقدت عينا كتلك التي فقدها صلاح  … ساقا كتلك التي كفنها بنفسه عباس ودفنها في ارض المعركة خشية ان تأكلها النسور” و يا حوم اتبع لو جرينه ”  ،  كفا كتلك التي كان يخط بها ،  سامي،  لافتات نعي نصف جنود وضباط وعرفاء كتيبتنا فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا …عقلا كذلك الذي فقده الدكتور عمر حين لمح رأس الدكتور علي يطير أمامه في الهواء بشظية قنبلة  فيما كانا يتجاذبان اطراف الحديث عن ” الحب في زمن الكوليرا ” لماركيز بعد الحديث عن ” وداعا للسلاح” لأرنست هيمنغواي … أمعاء  كتلك التي تهدلت بقنبرة مورتزر عيار 100ملم فحضنها عثمان بمساعدة رفقيه في – الموت – حسين ولسان حالهما يردد ما قاله الحكيم الصيني الثاني ، مانشيوس ” الحرب هي أن تلتهم الأرض لحوم البشر”، لأعيد الفحص الذاتي والدوري في نهاية معركة جديدة بعد أيام من سابقتها ، آخرها بالنسبة لي كانت قبيل  نهاية سيناريو الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988 بأيام قلائل  ، كنت يومها قد فرغت توا فوق قمة صخرية جرداء لا يكف فيها القناص عن ارسال هداياه لنا بمعدل 25 إطلاقة في الساعة من بندقية أم 16 بمعية صواريخ الأر بي جي 7 والأس بي جي 9 ، انتهيت للتو من تصحيح نسخة ما قبل الطبع لكتابي ( شكوك  في غرائب وألغاز العالم ) بعد موافقة دائرة الرقابة على طباعته بخمسة الاف نسخة ، الكتاب الذي فقد ساعتها  كان يتحدث عن حمق البشرية واعتقاداتها المليئة بالمغالطات والأساطير ” وحش بحيرة نيس ، خرافة الرجل الثلجي ، لعنة الفراعنة ، مثلث برمودا ، السحر الودوني ، اليوفو والصحون الطائرة ، دوائر الحقول الزراعية الغامضة ، لعنة الأنكا والمايا والأزتك ، أشباح القصور والمنازل المسكونة ، حورية البحر ، اسطورة الكراكن او الأخطبوط العملاق التي شغلت حيزا كبيرا في الميثولوجيا الإسكندنافية ، البارا سيكولوجي ، التنويم المغناطيسي ، خرافة ام سبع عيون ، معتقدات خاطئة في فولكلور الشعوب ” ، ساعتها هبطت علينا من السماء قنبرة هاون عيار 120 ملم تلقب بالخرساء اصبت من جرائها في عنقي وصدري ولم يتسن نقلي الى المستشفى الميداني الا بعد 24 ساعة عبر طائرة هليكوبتر روسية جلست داخلها مضرجا بالدماء بالقرب من بابها المفتوح وانا أتأمل فيما قيل ويقال عن الحرب إذ إن ” الخوف من الحرب أسوأ من الحرب نفسها” كما يقول الفيلسوف اليوناني سينيكا ، و في ” الحرب ليس هناك جندي غير مصاب ان لم يكن جسدا ، فعقلا او روحا ” على حد وصف جوزيه ناروسكي ، نقلت من المطار الميداني في باص خاص كبير يضم سديات علوية وسفلية عن اليمين وعن الشمال ،  خصصت الأولى منهما لجثث القتلى والثانية للجرحى فيما لم اجد مكانا بين الطرفين لشدة الزحام فجلست القرفصاء متوسطا بينهما وانا اتفكر في فلسفة الحياة والموت والقتل غير الرحيم منذ قابيل وهابيل والى ما بعد 100الف جيل وجيل ، كيف لا و” الحرب هي تسلية الزعماء الوحيدة التي يسمحون لأفراد الشعب بالمشاركة فيها” كما وصفها أحدهم ولاشك ان ” الحرب مأساة يستعمل فيها الانسان أفضل ما لديه ليلحق بنفسه أسوأ ما يصيبه” كما يقول السياسي البريطاني ، وليام غلادستون .
في المستشفى أرغمت على ارتداء ” دشداشة بازة صفراء مقلمة كالحمار الوحشي من غير أزرار علوية ، الدشداشة الملطخة بدماء من لبسها  قبلي كانت مصممة على مقاس رجل نحيف وقصير فيما انا طويل وعريض ، فقيل لي بعد ان أبديت اعتراضي الشديد على حسن الضيافة – هذا الموجود عيوني ولازم تغير ملابسك ، يعجبك اهلا وسهلا ما يعجبك اتفضل  من غير مطرود  !!.
نمت داخل الردهة وهي اشبه ما يكون  بـ ”  جملون ”  مليء بالجرحى من الجانبين ، يرقد بجانبي جندي مصاب بحروق شديدة وهو يئن من شدة الألم وأمامي صديقه الذي تعرض الى لدغة أفعى داخل الموضع وتم انقاذه في اللحظة الأخيرة وهو على هذه الحالة منذ 6 اشهر غير قادر على الحركة ، نمت بعد ان فقدت كتابي هناك في ارض المعركة وكأنني انام في فندق خمس نجوم اذ لا أحلى من نومة بلا أزيز رصاص ولا دوي مدافع ولا حركة عربات مجنزرة ومزنجرة  ولا غبار ميادين ولا دخان معارك ولا حقول ألغام والأهم من كل ذلك هو النوم بلا أبواق حرب صباحية ” طوط ططططططي طوط ” ، رحمك الله نائب ضابط عبد الستار ، كم  كنت احبك شخصيا ولكنني كنت أكره بوووقك الحربي الذي لم يتوقف لحظة عن العزف إلا برصاصة مستوردة من الدول المصنعة للسلاح ، اخترقته لتصيب قلبك المتعب والمتضخم من كثرة التدخين ، فيما استمرت الحرب من بعدك بغير بوق،  اذ ان ابواق البيت الأبيض والكرملين تكفي لإيقادها الى ما بعد الكارثة ! .
ليلتها اعلن ” بيان البيانات “بصوت المذيع مقداد مراد ، الذي أعلن بدوره وبعد عامين فقط من نهاية حرب الخليج الأولى وبمفارقة عجيبة بداية حرب الخليج الثانية  في شهر آب ايضا من عام 1990!! اعلن مراد نهاية الحرب العراقية الإيرانية التي خلفت وراءها أكثر من مليون قتيل من كلا الجانبين وخسائر مالية بلغت 400 مليار دولار ، فيما استمرت المعارك الدامية في قاطعنا حتى الـ 20 من آب وهو موعد الوقف الرسمي لأطلاق النار بين المتحاربين بشراسة قل نظيرها – لحين هبوط اسعار النفط التي وعد الرئيس الأميركي ،رونالد ريغان ، بتخفيضها  بعد تجاوزها 13 دولارا للبرميل ولو بحرب في الخليج وكان له ما أراد –  بعد يومين وضعوا لنا في ردهة الجرحى مكرمة كانت عبارة عن جهاز تلفزيون “قيثارة ” صناعة وطنية لم يعد لها وجود بعد – حوسمة – مصانعنا عمدا في حرب خليجية ثالثة لاحقة لي معها وقفة اخرى كشقيقتيها  الأولى والثانية ، فخرج علينا الفنان عارف محسن ، وهو يغني ” زعلان الأسمر مايكلي مرحبا ، ما رايد اكثر من كلمة مرحبا ..” ردد الجرحى الأغنية المدنية لا إراديا بعد ثماني سنين من ترديدنا لأناشيد الحرب واولها ” مرحبا يا معارك المصير”  مرورا بـ ” يا كاع ترابج كافوري عالساتر هلهل شاجوري ” و” يا أهل العمارة هاي اجمل بشارة ” و “انا امك كالتلي الكاع وانته وليدي ” و” احنه مشينا مشينه للحرب ” وانتهاء بـ ” ها ولكم وين ؟ يا دجالين..” ، عمي أبشرك بأن الدجالين  اليوم أحوال و في أعلى المناصب !!.
ساعتها علمت ان بديلي بعد اصابتي في الميدان – سعدي – قتل برصاص قناص وان موضعنا اصيب بقذيفة فأحترق بالكامل بما فيه من اسلحة وأعتدة وأقنعة وقاية من الغازات السامة والضربات الكيميائية – ومستندات شخصية – حوكمنا وغرمنا ثمنها لاحقا ..تصوووور !!

الغريب انني كلفت بنقل جثمان صديقي – زميل القصعة – قارئ المقام العراقي ، سعدي الكرخي ، والذهاب – بدربي – للعلاج في مستشفى القوة الجوية بعد تعذر علاجي في مستشفى اربيل العسكري ، سعدي باختصار رفض اشقاؤه من أمه تسلم جثمانه لخلافات عائلية بينهما على أرث ابيهم ، وهناك في محلة الشيخ معروف حيث يسكن سعدي رحمه الله ، علمت انه كان قد طلق زوجته برغم قصة الحب الطويلة بينهما بعد وفاة ولدهما الوحيد بحادث مروري حيث كان كل واحد منهما يلقي اللوم على الآخر ويحمله مسؤولية حادث مصرع طفلهما العارض والأشد حزنا من ذلك ان سعدي قتل ساعة وقف اطلاق النار والأشد ايلاما هو علمي  بأن سعدي منتدب وكتاب انتدابه الى وزارة النفط كان قد وصل الى وحدتنا العسكرية قبل مقتله بعشرة ايام !! ، تسلمت شقيقته الوحيدة جثمانه ووقعت على تسلمه فدفناه بجوار والدته وكأن ..حربا عبثية لم تكن !!.عدت القهقرى وحيدا كعادتي أذرع شوارع الكرخ تجاه الرصافة ووقفت على جسر الشهداء ،  أحد معابر جسر الأرواح والجنود المجندة التي بدأت منها حكاية الذي عبروا وعادوا من والى الحرب أشلاء ممزقة او بأنصاف اجساد او انهم لم يعودوا اصلا وانا اترنم قول قائلهم بالعامية  ( يردح حيل الما شايفها ) وبالفصحى :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ ..وما هو عنها بالحديث المُرجَّمِ
اودعناكم اغاتي

أحدث المقالات