18 ديسمبر، 2024 11:04 م

يوميات نصراوي: بورسعيد عربية والقنال مصرية

يوميات نصراوي: بورسعيد عربية والقنال مصرية

*برنامج بن غوريون “الخيالي” لشرق اوسط جديد* الانذار السوفييتي وهزيمة
العدوان الثلاثي على مصر* صفحة ناصعة من نضالنا ضد العدوان الثلاثي*
حلم مملكة سليمان الثانية
قرأت خلال مشوار حياتي الفكرية والسياسية الكثير من كتب التنظير، التاريخ، المذكرات والأبحاث المتنوعة العربية والأجنبية، بما في ذلك مؤلفات مختلفة عن حرب السويس، أو ما يعرف باسم العدوان الثلاثي على مصر، وهو العدوان الذي نفذته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956 لضرب وإسقاط نظام عبد الناصر الوطني المعادي للاستعمار، النظام الذي كسر احتكار السلاح ، بعقده صفقات سلاح مع المعسكر الاشتراكي بسبب رفض الغرب تسليح الجيش المصري، وكسر الحواجز التي كانت مفروضة على الاتحاد السوفييتي وقتها، وأمم قناة السويس، التي كانت خاضعة للبريطانيين، بعد ان رفض البنك الدولي تمويل مشروع بناء السد العالي، عمليا مشروع توفير الكهرباء لبناء الاقتصاد المصري لأنه بدون الكهرباء لا مستقبل لمصر. عرض وقتها الاتحاد السوفييتي ان يمول مشروع بناء السد العالي والمحطة الكهرمائية وينفذه مع الخبراء السوفييت ذوي الخبرة الكبيرة ببناء السدود لتوليد الكهرباء. كذلك دعم عبد الناصر الثورة الجزائرية ضد فرنسا وساهم في بعث الشعور القومي العربي بشكل لا سابق له في التاريخ العربي.
في فترة العدوان الثلاثي على مصر كنت عضوا بمنظمة ابناء الكادحين الشيوعية (ابن 9 سنوات) وما علق بذاكرتي هي نشاطات رفاق الشبيبة ضد العدوان الثلاثي والذي اذكر منه بالأساس كتابة شعارات على الحيطان في الناصرة مناهضة للحرب العدوانية ، كان هذا تقليدا دارجا في وقته واحفظ حادثة مضحكة ومعبرة سأرويها بعد ان اقدم للقارئ الخلفية السياسية والعدوانية للحرب ضد مصر، الى جانب اطماع المؤسسة الصهيونية بتوسيع حدود اسرائيل وضم سيناء.
برنامج بن غوريون “الخيالي – fantastic “:
هدف إسرائيل عبر عنه رئيس حكومتها في ذلك الوقت بن غوريون ويهدف الى احتلال سيناء التي تبشر بآبار نفط، واحتلال مضائق تيران ، التي تعتبرها إسرائيل قناة السويس الخاصة بها، واقامة مملكة سليمان الثانية، التي تعتبر سيناء جزءا منها، حيث تتحدث اساطير التوراة عن نزول التوراة على موسى في جبل سيناء، الى جانب الوصايا العشر المخصصة لليهود وهي منسوخة من الوصايا الفرعونية
ونزلت خصيصا لليهود وليس لأي شعب آخر كما يتوهم البعض- لكنه موضوع آخر.
كان بن غوريون يطمح الى تغيير خارطة الشرق الأوسط بما يتلاءم ورؤية إسرائيل السياسية والتوراتية ومصالح الاستعمارين البريطاني والفرنسي.
كان لبن غوريون برنامج لتنظيم كل الأمور في الشرق الأوسط حمل اسم “الخيالي” (fantastic – بالعبرية: פנטסתי) وحسب بن غوريون: “البرنامج قابل للتنفيذ بشرط ان توجد ارادة ورغبة صادقة عند البريطانيين، الأمر الذي أشك به” حسب اقواله.
من بنود برنامج “الخيالي” التي كشف عنها:
1 – القضاء والتخلص من جمال عبد الناصر!
2 – تقسم الأردن الى قسمين، الضفة الغربية تسلم لإسرائيل، الضفة الشرقية تسلم للعراق والشرط الإسرائيلي في هذا الشأن أن يوقع العراق على اتفاقية سلام مع إسرائيل يوافق بموجبها على توطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه”.
ملاحظة من الكاتب: كان العراق وقتها ضمن “حلف بغداد” الاستعماري، الذي تم إنشاؤه عام 1955 للوقوف بوجه “المد الشيوعي في الشرق الأوسط “– عمليا ضد تحرر الشرق من استمرار السيطرة الاستعمارية وكان الحلف معاديا بالطبع لنظام عبد الناصر- ضم الحلف إلى جانب بريطانيا كل من العراق وتركيا وإيران وباكستان. اسقط الحلف بعد ثورة 14 تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم التي أسقطت النظام الملكي وأعلنت العراق جمهورية.
3 – تقليص حدود لبنان وسلخ قسم من لبنان واعطائه لسوريا ، قسم آخر حتى نهر الليطاني (مصدر المياه) يسلم لإسرائيل، في القسم المتبقي من لبنان تقوم دولة مسيحية، بالنسبة لسوريا سيستقر النظام عندما يقف على رأسه حاكم يدعم الغرب، وللأمريكيين ثقة بالشيشكلي!!
كان دافيد بن غوريون، يقول عن عبد الناصر انه: “إبن موظف بريد، قائد ثورة الضباط الأحرار، الذي يعتبر البطل الطبيعي للعالم العربي، صورته التي رسمت على مئات ألاف المطبوعات والملصقات في البيوت، الدكاكين، الأسواق وفي كل أنحاء الشرق الأوسط. عرف عبد الناصر كيف يزعزع الغرب وكيف يستقطب العرب كونهم عانوا من الاستعمار الأوروبي عشرات السنين، وعلم عبد الناصر متى يتوقف وأين، وعرف كيف تعالج الأمور مانعا بذلك انقطاع محتمل بالعلاقات مع أوروبا ومع العالم الغربي”.
انذار سوفييتي يشل المعتدين
كان الهجوم الانجلو فرنسي على مصر بحجة حماية قناة السويس، الممر المائي الاستراتيجي من الحرب المصرية الاسرائيلية، التي كانت ضمن المؤامرة المتفق عليها لضرب نظام عبد الناصر بين اسرائيل وفرنسا وبريطانيا. المفاجأة التي شلت العدوان واوقفته، الى جانب المقاومة الباسلة للشعب المصري، كان صدور الإنذار السوفيتي الشهير الذي هدد بضرب باريس ولندن بصواريخ غير تقليدية، القصد كان ضرب العاصمتين باريس ولندن بصواريخ نووية اذا لم يتوقف العدوان على مصر فورا. الأمر الذي أرعب المعتدين وأفشل خططهم وعمليا قاد إلى اضمحلال الدور الدولي للاستعمارين العجوزين، فرنسا وبريطانيا. حتى بن غوريون الذي كان يطمح الى اقامة مملكة اسرائيل التي تشمل سيناء أيضا ، لف ذنبه وانسحب.
كانت لبن غوريون نظرة دونية ضد العرب، تحاور في أولى سنوات الدولة مع جنرال اسرائيلي، ونشرت تفاصيل الحوار في صحيفة ” هآرتس” على الأغلب. الجنرال عبر عن قلقه الأمني، قال له بن غوريون ما معناه انه لا ضرورة للخوف “العرب قوم لا يقرؤون” . تساءل الجنرال:” وإذا تعلموا القراءة؟” رد بن غوريون:” وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فَهِموا لا يطبِّقون فلا خوف على اسرائيل “
وثيقة: نص الانذارات السوفييتية للمعتدين :
جاء في نص الانذار السوفييتي لبريطانيا وفرنسا: “أن قناة السويس استعملت كمبرر فقط من اجل شن حرب عدوانية مدبرة ضد الامة العربية بقصد تصفية الاستقلال الوطني لدولها…واننا نتساءل في اي موقف تجد فيها بريطانيا (او فرنسا) نفسها اذا هوجمت بواسطة قوى اكبر منها تملك انواعا حديثة من اسلحة الدمار الشامل؟ ان هذه القوى الكبيرة (القصد الاتحاد السوفييتي) لن ترسل اساطيلها البحرية او الجوية لتقتحم الشواطئ البريطانية او الفرنسية، وبدلا من ذلك فانها تستطيع ان تستعمل وسائل اخرى كالصواريخ مثلا. واذا استعملت الصواريخ ضد بريطانيا وفرنسا، فانكم بالتأكيد سوف تسمون ذلك عملا بربريا، ومع ذلك فأي فارق بين هذا وبين غزوكم لمصر..؟”
وجاء في الانذار لحكومة اسرائيل: “ان حكومة اسرائيل تلعب بأقدار العالم وبأقدار شعبها بطريقة مجرمة وغير مسئولة، وهي تحصد الكراهية ضد دولة اسرائيل من جانب كل الشعوب الشرقية، ومثل ذلك لا يمكن الا ان يترك اثره على مستقبل اسرائيل، ويضع موضع التساؤل احقية وجوها ذاته كدولة. ان حكومة الاتحاد السوفيتي تتخذ الآن خطوات تكفل وضع نهاية للحرب وردع المعتدي، وعلى الحكومة الاسرائيلية ان تعيد تقدير موقفها قبل ان يفوت الاوان، ونحن نأمل في أن الحكومة الاسرائيلية سوف تعي تماما وتقدر معنى هذا التحذير الذي نوجهه”!!
هكذا توقف الاعتداء.. ولا بد من الاشارة الى المقاومة الباسلة للشعب المصري ضد المعتدين حيث اوقعوا بهم خسائر فادحة، وبرز بين ابطال المقاومة ضابط البحرية السوري جول جمال الذي تطوع للقتال ضد المعتدين وقام بتفجير المدمرة الفرنسية الضخمة “جان دارك” في وسط البحر وهي بطريقها لضرب بورسعيد، حيث مركز
المقاومة المصرية للعدوان، وذلك بعملية انتحارية بواسطة قارب طوربيد صغير عبأه بالمتفجرات وقاده لوسط البحر حيث قام بصدم المدمرة في وسطها فاشتعلت فيها النيران وقتل وغرق العشرات من بحارتها، بذلك منع وصولها الى بورسعيد.
من صفحاتنا النضالية
بعض التفاصيل غير المهمة ضاعت من ذاكرتي، لكنها لا تضر بالصورة عن الأشكال النضالية التي مارسها الجيل الطليعي، عن جرأته وثقته بنفسه وطريقه وفكره واكاد اقول انه جيل لم يكن يعرف الخوف والتردد في مواجهة المخاطر من اجل فكرة وطنية سامية. جيلا شكل نموذجا للكثيرين من ابناء جيلي، كنا نحلم ونحن على ابواب العقد الثاني، ان نصبح شبابا اقوياء لنواصل ما بدأوه.
بعض الاسماء لا تغادر ذهني، منها اسماء رزق المشهور بجرأته واقدامه ، جوزيف الهادئ الرصين، النعيمان اللذان لا يعرفان التردد، سهيل فنان الخط الذي يكتب بسرعة واتقان مستعملا الفرشاة ، البير الفنان الرسام المبدع للوحات السياسية وغسان المنظم الذي يقود “غرفة العمليات النضالية” (اذا صح التعبير) وآخرين ضاعت اسمائهم من ذاكرتي.. لا اذكر اسماء عائلاتهم لأني لا اعرف كل الأسماء ولست متأكدا من جميع الأسماء، لذلك اقول ان بيتهم وعائلتهم هي منظمة الشبيبة الشيوعية في الناصرة، التي لعبت دورا نضاليا وتثقيفيا في وقته.. قبل ان تصبح جسما مفككا بلا عمود فقري ولا دور مميز او ملموس لها اليوم.
معظم أولئك الأبطال اصبحوا نزلاء في العالم الآخر لكنهم أحياء في الذاكرة بنضالهم المتفاني والبطولي في احلك الأوقات التي مرت على شعبنا. كانوا نموذجا للإنسان الثوري والوطني الذي يضع مصلحة شعبه فوق اي مصلحة اخرى، لم ترهبهم السجون، لم يكسرهم العنف والقيود على مصدر رزقهم، كان ايمانهم بشعبهم وحقوقه يجعلهم اصلب من الفولاذ، سيرتهم كانت وراء قناعتي ان لا اهاجر من وطني حين تملكني اليأس بسبب القيود العسكرية التي فرضت علي في شبابي المبكر… لذا لم اغادر وطني “قسرا”.. ولم اتحول الى انتهازي يضع مصلحته الشخصية في المكان الأول. للأسف لم يتبق من ذلك التاريخ الا ذكريات عن جيل صنع التاريخ… لكنه أضحى اليوم نسيا منسيا!!
كنت شبلا في منظمة تحمل اسما رمزيا “ابناء الكادحين” حيث تلقينا ثقافتنا السياسية والفكرية الأولى، لم نكن نُحمل واجبات نضالية، بل لا نعرف بشكل مباشر شيئا عن الذين ينفذون المهام النضالية ليلا مثلا.. رغم انني كنت اعرف من يكتب الخط بهذا الاتقان وتلك السرعة على الحيطان، وكانه ماكينة طباعة مشحمة جيدا. لم يكن صعبا علي ان اعرف من ينفذ النشاطات التي تثير غضب الشرطة والحاكم العسكري ، لكننا تثقفنا ان نحافظ على سرية نشاطنا واسماء رفاقنا ، بسبب سياسة الارهاب والتضييق على الرزق التي كانت تمارس بكل قساوتها وعنفها.
العام 1956.. العدوان الثلاثي على مصر.. ارهاب بوليسي في الوسط العربي.. جريمة قتل خمسون مواطنا في كفرقاسم.. الجو كان مشحونا بالتوتر والارهاب،
ظهرت شعارات على الحيطان في الناصرة، اذكر منها: “ارفعوا ايديكم عن مصر”، “يسقط العدوان الثلاثي على مصر” و”بورسعيد عربية والقناة مصرية”، كان هذا الشعار ردا على مطالبة اسرائيل بفتح قناة السويس امام الملاحة الاسرائيلية.. ولم تكن تفاصيل الجريمة في كفرقاسم قد كشفت بعد!!
كانت بلدية الناصرة في تلك الأيام تحت سيطرة قوى لا تجرؤ على معارضة السلطة، بل تخدم سياستها . كما يبدو ان البلدية بادرت، او أمرها الحاكم العسكري، ان تمحو فورا الشعارات التي ملأت حيطان الناصرة ضد العدوان على مصر. قام عمال البلدية بدهن الشيد على الشعارات ، فاختفت تحت اللون الأبيض، ما اتذكره كفتى ان كادر الشباب بدأ يفكر كيف يزيل الشيد عن الشعارات بطريقة سريعة وسهلة بدل كتابتها من جديد. كانت دوريات الشرطة جاهزة لالقاء القبض على كل من يحمل علب الدهان، خاصة في ساعات الليل وتتهمه بكتابة الشعارات ولا بد ان يلقى التعذيب والسجن.. طبعا الارهاب فرض اثاره على الشارع في الوسط العربي، ربما كان نوعا من منع التجول ليلا أيضا..
اتذكر ان منفذي كتابة الشعارات احضروا مضخات يدوية بسيطة كنا نستعملها لرش المبيدات الحشرية ( الدي . دي . تي ) في منازلنا للقضاء على البعوض ولسعاته المؤذية وعلى تكاثر الذباب في المنازل. كتبوا بالدهان على حائط في النادي جمل عشوائية وطلوها بالشيد، جربوا الماء كما اذكر لإزالة الشيد عن الدهان، لم تنجح التجربة ، ثم جربوا الكاز، نجحت التجربة وزال الشيد عن الدهان وبدى الشعار اكثر بروزا وكأن الشيد دهن خصيصا ليكون خلفية للشعارات.
هكذا مع مضخات (الدي.دي. تي) معبأة بالكاز جرى مغافلة الشرطة ورش الكاز على الشيد الذي طليت به الشعارات، فجرا برزت الشعارات أكثر قوة واكثر توهجا بخلفيتها البيضاء… كالعادة نفذت الشرطة حملة اعتقالات لكنها فشلت بإثبات تهمها رغم معرفتها الأكيدة بمن نفذ تلك المهمة.
غضبت السلطة العسكرية وامرت البلدية ان تسارع الى ازالة الشعارات.
ارسلت البلدية مرة أخرى عمالها مع المطارق والأزاميل “لتنقية” الحيطان من الشعارات، العمال نفذوا الأوامر بان تزال الشعارات بواسطة المطارق والأزاميل .
حفروا بطرقة مقصودة .. بأن يصبح الشعار محفورا في الحائط، في اليوم التالي ارسلت البلدية عمالها مع اكياس الإسمنت والرمل لإغلاق الحفر في الحيطان ، فبرزت الشعارات بقوة باللون الرمادي، لون الاسمنت، كما يبدو زهق الحاكم العسكري من “غباء البلدية وعمالها” ، اذكر ان بعض تلك الشعارات ظلت محفورة على الحيطان لسنوات طويلة جدا.
*******
ملاحظة: ما اسجله هو تاريخ نضالي لجيل طلائعي.. لعب دورا هاما في حياة الجماهير العربية، اليوم لا اجد الا تنظيما للثرثرة والمنافسة على المكاسب الشخصية، لكن التاريخ مقدس وأبطاله مقدسون، ولو عادوا للحياة اليوم وشاهدوا واقع تنظيمهم لأنكروه!!
[email protected]