يوميات في مشفى الحصاد والزرع 

ربما ان الحصاد والزرع كمفهومين لا يتطابقان مع المفهوم السائد في فلاحة وزراعة الارض، فمن المعروف ان الزراعة تسبق الحصاد، لكنه في المفهوم الطبي في عملية زراع النخاع هو كذلك.. كنت شاهدة على هذه العملية الدقيقة لزراعة النخاع في جسد زوجي .. في حالة اللوكيميا من الدرجة الثانية لا بد ان تتم زراعة النخاع . عبر مانح تتطابق تركيبة دمه مع المريض ولحسن الحظ كان هذا المانح أخا لزوجي تطابقه ١٠٠%. يأخذ الدم من الجسد المعافى ويدخل في جهاز وعبر أسلاك دقيقة يدخل في دائرة تهتز بقوة تحصل فيها تحليل الدم عبر الطرد العكسي يتحلل الدم الى مشتقات ويجمع نخاع العظم  وهو سائل برتقالي اللون يطلق عليه الحصاد ليزرع في جسد المريض .
اتكور في زوايٰة على كرسي اخضر اللون وتحيط بي جدران بيضاء متوزعة بين غرفتين الاولى هناك جسدا يمنح والغرفة الثانية الجسد المريض الذي ينتظر الزرع بعد انتظار طويل .. طويل جدا.
يدور الجهاز الدائري بقوة ويطلق شخيرا متقطع.. وتدور معها أفكاري .. للدائرة معانٍ عدة لا تحمل زوايا وانحناءات تشترك معنا في الرسوم والأشكال / استدارة الشمس والأرض والمجرات وأول رسمة لوجه في كهف منزو او هالة القديسين لا تبارح رؤوسهم . حين كنت طفلة كنت اول رسمة لي وجه شمس ضاحك لونته بلون برتقالي مائل الى الحمرة
ووجه المريض مائل الى الصفرة. تختزل الألوان الشعور وتضفي للشكل لغة وأبعادا جديدة.
الوجل يكبر في أعماقي
رغم اني تحررت من الأسر
أميل اليوم الى نكهة جديدة
حزمت أمري
امتطيت حصانا مسحورا
مثل بدر البدور
اذكر جيدا وانا طفلة كيف كان ابي مولعا بالحديقة ويمارس شتى ابتكاراته لتظل واحته نضرة ومن ضمن هذه الابتكارات عملية التطعيم فهو يقوم بتطعيم الشجرة المسنة او المريضة بفروع من أشجار قوية ومعافية بربطها معا لكي تعيش وتثمر. كم الحياة متجددة، الورقة التي تسقط من الشجرة في الخريف تعود من جديد في الربيع كما الموت في لحظة موت إنسان ما يولد إنسان آخراً في نفس اللحظة .
حملتك في أحشائي
اتقاسم معك خفقتي وعسر ليل مذبوح
لكتي اليوم:
حمامة انطلقت تجوب البوادي
واستفاقة الحقول
أردد اغنية من حضارات عريقة آمنت بالحياة بعد الموت ومجدت للخصوبة والخلود ورسخت في معتقدات قديمة من مصر وبابل وكنعان واشور…
الحب ينتصر على الفناء
وكم وهبنا للحياة هناء
نرفع للأرض صلاتنا الأزلية
الانسان اكثر من تراب
اكثر من تراب
يفتح عينيه ويهمس في أذني: احس بالعطش
أدرك المعجزة وفي عيني التماعات شمس ضاحكة.
الخريف هو التبدل العميق في احاسيسنا المتأججة
وفي مدخل المستشفى مجموعة موسيقيون ومعهم كورال يعزف مقطعا من سيمفونية هايدن/ الفصول الأربعة وينشد الكورال :
ان الأكواخ التي تأوينا
والصوف الذي يغطينا
والطعام الذي يغذينا
كله هبة… منك ايها الآلة النبيلة