الذاكرة هي مرتكز محوري إنطلق منه الروائي أسعد الهلالي في بناء مسارب روايته (يوميات غياب الندى) شكلا ً ومضمونا ً،والذاكرة هنا ذاتية /موضوعية ، يتداخل فيها ماهو شخصي مع العام، وليس هنالك من حد ٍفاصل يمكن من خلاله فك الارتباط والتفريق مابين هذين العالمين،اللذان تتداخلت فيهمااحداث الرواية وهي تمتد على مساحة زمنية واسعة بدايتها كانت في مطلع ستينيات القرن الماضي ثم الحرب العراقية الايرانية في العقد الثامن منه ثم فترة الحصار الدولي على العراق على أثر غزوه للكويت .
في كل هذه الازمنة يتداخل الخاص مع العام في بنية واحدة متشابكة ومتلاحمة، حتى بات أحدهما يعكس وجه الآخر، ومن خلال هذه الوحدة وهذا التشابك، عكس الكاتب رؤيته الشخصية المتعلقة بتاريخ طويل من عمر العراق المعاصر، يبدأ من منتصف القرن العشرين وصولاًالى ماقبل العام 2003.
تأتي أهمية هذه الرواية في معمارها الفنيّ، عندماالتجأ الهلالي للامساك بمساحة واسعة وفضفاضة من التاريخ العام ليكونَ جزءاً مُندمِجاً ومُتماهياً مع التاريخ الخاص للشخصيات في نص روائي تشكلت عناصره السردية من عتبتي الزمن والذاكرة،بنفس الوقت، نقل الهلالي هذا التاريخ العام، مرة أخرى عبر الخاص،الى العام،بعد أن أدخله في مشغل رؤيتة الابداعية ،معيداً ،من خلالها، تركيبه وتفسيره، وفقاً لمنظومة فلسفية ينطلق منهافي رؤيته للتاريخ العام الذي عصف ببلاده خلال خلال اكثر من نصف قرن من الزمان، كانت قد ارتكبت فيها سياسات الانظمة الحاكمة اخطاءً جسيمة اساءت كثيراً الى حرية وكرامة الفرد، فكان أحمد العراقي نموذجا لشخصية الفنان المثقف الذي وقع ضحية اساليب وحشية اعتادت على ممارستها اجهزة امنية قمعية لاتحترم أدمية الانسان، وهذا مايضطره بالتالي الى الهروب خارج البلاد نحو اليمن في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين بعد أن فشلت الانتفاضة الشعبية عام 1991والتي كانت قد عمّت أغلب مدن العراق على اثر النتائج الكارثية التي تمخضت عن قرار غزو العراق لدولة الكويت،وما تلا تلك الانتفاضة من اعمال انتقامية ارتكبتها اجهزة السلطة الأمنيّة ضد المنتفضين والمواطنين على حد سواء .وفي صنعاء عاصمة اليمن تطول مدة لجوئه فيها إلى عشرة اعوام، يعيش فيها غربة قاسية لاتبددها سوها علاقة حب عميقة أرتبط بها مع ندى وهي شابة عراقية كانت قد إلتجأت مع عائلتها الى اليمن مثل عشرات غيرها بعد أن فتكت الحروب ببلدهم العراق،ولكن القرار الهجرة بعيدا عن اليمن الذي إتخذته ندى يضعه في غربة أخرى داخل غربته،لتستيقظ الذاكرة في سردية شعرية مُستعيدة ذاته الاخرى(كما يقول بول ريكور )التي أرختها شوارع اليمن في أدق تفاصيل العلاقة الشخصية الحميمة مع الحبيبة ندى .
جاء المكان في البناء السردي لهذا العمل من غير أن يشكِّل أية اهمية واضحةفي تفاصيله وملامحه التي كرستها تقاليد الرواية الكلاسيكية والواقعية،بينما أكتسب الحدث حضوراً واضحاً،فمركزيةالمكان هنا لاأهمية ولاحضور لها، ولاتشكل للمؤلف عتبة اساسية وجوهرية ينطلق منها في سرد بنيته الروائية،وهذا يعود إلى أن الماضي بكل ثقله لم يرتبط بمكان محدد طالما كانت الشخصيات في حالة هروب دائم ولم تستقر في مكان بعينه .
إذن الحضورهنا يهمين عليه ألحدث،وليس بنية ألمكان التقليدية كما شكَّلتها منظومة الرواية العربية خلال اكثر من نصف قرن،وهذا يعود كما أشرنا ألى أن معظم شخصيات الرواية كانت مطاردة ولم تستقر في المكان الذي ولدت فيه واكتسبت منه طبيعتها الاجتماعية، إنما لجأت مُضطرة ومقهورة الى آمكنة أخرى بعيدة وغريبة عنها.
تبدأ احداث الرواية في مطار العاصمة اليمنية صنعاء عندما يودع (أحمد العراقي) الشخصية الرئيسية حبيبته (ندى)،ألتي ستغادر صنعاء الى مكان آخربعيد،ومجهول،لم يحدده المؤلف،وهي إشارة واضحة الى المصيرالمجهول الذي عصف بالعراقيين خلال الفترة التي تناولتها احداث الرواية :” هدرت محركات الطائرة الفضية .. إبتلع الممر الضيق المؤدي إلى صالة المغادرة آخر الاقدام المسرعة ، مجلللاً بعضها بالدموع والآخر بخفقات قلوب إستلقى فيها فرح غامر أرهقه التقافز حتى أوشك على الانهيار … ” .
وبماأن جلّ الشخصيات قد تعرضت الى الابتعاد القسري عن المكان الذي تنتمي له،لذا كان من المنطقي أن يغيَّب المؤلف الطبيعة الطوبوغرافيةللمكان على حساب حضور الحدث واللحظة الانسانية التي تعيشها الشخصيات وهي تواجه فعل المطاردة من قبل اجهزة السلطة الامنية .
لم تكن الشخصيات في حالة إطمئنان حقيقي حتى عندما تكون بعيدة تماما عن الامكنة التي هربت منها جغرافياً،لأن الذاكرة الشخصية بما تمتلكه من رصيد كبير اختزنته في داخلها لاتجعلها تحيا بهدوء واطمئنان حتى بعد أن أمست في منأى عن الخطر الذي كان يطاردها،فهي مازالت تننفس وتتنازع مع ماضيها المسكون بالملاحقة والخوف،:”تعلمين أني غادرت جحيمي بقدمين متهرئتين ..وأحتاج إلى الكثير من الوقت كي تتماثل قدماي للشفاء .”
الذات الساردة هنا شديدة الحساسية في فهمها وتفسيراتها لأبسط اللحظات والتفاصيل وهذا يعود لكونها ذاتُ فنانٍ شاب درس الاخراج السينمائي في كلية الفنون الجميلة ببغداد في ثمانينات القرن العشرين قادما من مدينة كربلاء ذات الصبغة الدينية الواضحة جداً، فتقاطع هذا المسار مع ماكان يريده له والده في أن يكون ضابطا في الجيش العراقي،كما تقاطعت أيضاًافكاره اليسارية مع افكار والده القومية، وعلى الرغم من فشلها في حكم البلاد بشكل سليم مرتين ،عام 63 و68 وتسببها بالكثير من الاحداث المؤلمة التي تحملها المجتمع إلاّ أن والده بقي على موقفه المدافع عن تلك الافكار ومبرراً كل اخطائها التي انعكس تأثيرها على مستقبل البلاد فيما بعد .
تبدوالشخصية الرئيسية في هذا العمل(أحمد العراقي ) وكأنها في حالة من الترنّح منذ اللحظة الاولى التي يلتقي بها القارىء ، فهي تبدو شخصية فاقدة للطمأنينة التي كانت قد تبخرت في الحرب العراقية الايرانية:-” مع أول عروس شهدتُ زفافها بملابسها البيضاء المبرقشة باللؤلؤ الصناعي ..وباقة الورد التي بعثَرَتها على عريسها المضطجع بأستسلام في نعشه وفي جبهته رصاصة بدت لعيني عروسه قبل تكفينه كقبلة حلمت ذات يوم بعيد أن تطبعها على جبينه الضاج بالرجولة والكبرياء ،عشقته فتى وشاباً ولاتملك إلاّ أن تنثر الزهور على سكونه وقد أرسلته إليها الحرب في يوم زفافه غارسة في جبهته قبلتها البارودية ”
كانت الاعوام العشرة التي قضاها في الغربة بعيدا عن وطنه العراق كافية لأن يستحضر فيها السنين التي مضت لتأتي متدحرجة بعدأن خاض فيها تجربة مُرّة لايمكن أن تشطبها الذاكرة :” اضطررتُ إلى دفن سنواتي في مقابر من كانت الحرب تبعث إلينا بأشلائهم من أصدقاء ندفنهم دونما نظرة أخيرة ودونما وداع أخير .. وغالباً ما نستعجل دفنهم مع بقايا رائحة زنخة اختلط فيها التفسخ بأكداس البارود والغازات الكيمياوية السامة أحيانا .. غالباً ما كان النعش مسمراً وخطوط حمراء تنصّ على أن يدفن القتيل بنعشه وحين أصرت إحدى الأمهات على فتح تابوت ابنها معاندة بنادق الحراس عثرت على أشلاء لها ثلاثة أقدام وذراع واحدة ودونما رأس .. كفت المرأة عن البكاء .. كانت موقنة أن ابنها لم يمتلك قدماً ثالثة طوال حياته.. غادرت القبر فوراً ولم تعد لزيارته .. أعلنت أنها ستنتظر عودة وليدها.. بعد عشرة أعوام من انتظار سقيم أخبرت جارتها أنها ستبحث عن ابنها في دار الله المطلة على الأرض جميعاً.. كانت موقنة من أنها ستعثر عليه .. قرؤوا ذلك في عينيها المشرعتين حين أغمضوهما الإغماضة الأخيرة في اليوم التالي .. ودفنوها في قبر بارد مجاور لأشلاء من ظنوه ولدها الذي جلبت أشلائه الحرب قبل عشر سنين.. زارت جارتها القبر في الخميس التالي فوجدته حفرة غائرة لا تحوي سوى قطعة من الحجر هشم بها أحدهم أو إحداهن.. لا أحد يدري .. شاهدة قبر قتيل الحرب” .
الزمن التاريخي الذي شهد الوقائع والتفاصيل كان منصّة سُجلت عليها الاحداث.. هذا الزمن عادة ما يمتلكه الكاتب ليحيله في بنيته السردية الى بنية جمالية يمرر فيها أحاسيسه التي شكلت ذاته في تحولاتها، فكانت تجربة الجنس المبكرة لأحمد العراقي مع جارتهم أميرة زوجة الشهيد سالم عبيد الذي سقط في حرب أكتوبر /تشرين عام 1973 التي جرت مابين العرب ودولة اسرائيل، فكانت تلك أولى تجاربه الحسية وهو لم يزل مراهقا، لتقرَّ حتمية زمنية جاءت في سياقٍ خارج ماكانت الذات مهيئة له :” تشبثت كفي بالراديو حين حاولت أميره جذبه .. ظننتُ أنها تود سرقته .. وفوجئت تماماً حين رمته جانباً بإهمال .. تعاظمت مفاجئتي حين جذبَتْ بيجامتي لأبدو كدجاجة قرعاء وأنا منكفئ على جسدي الذي لم يحتم ِسوى بسروالي الداخلي الذي لم يصمد على جسدي طويلاً إذ جذبته أميرة سريعاً فغطيتُ ما ظهر مما لا يجب أن يظهر بكفي.. فحّ صوتها ..
ـ لا أظنك تعرف شيئاً ؟
أجبتها ..
ـ ما الذي يجب أن أعرفه ؟ ..
رددتْ ..
ـ سأعلمك .. سأعلمك ..
أسرعت بخلع جلبابها الأسود فبان عريها لامعاً كالمرآة .. أشارت لنهديها ..
ـ ما هذان ؟
ـ ثديان ..
ـ لماذا غرزا في صدري لا صدرك ؟
ـ لأنك تُرضعين بهما ..
ـ حسنٌ .. ارضع قليلاً ..
ـ لكني فطمتُ منذ سنين بعيدة ..
ـ ألا تعلم أن ثدي المرأة وجد ليرضعه الطفل والرجل ..
ـ لا أعلم .. سأسأل أمي ..
ـ لن تسأل أمك أسئلة كهذه .. ما ترضعه كبيراً ليس ثدي أمك بل ثدي آخر .. ثديي مثلاً .. تعال ..
اقتربت مني .. رمقتني بنظراتها المضطربة فأخافتني .. اقترب فمي مرتبكاً من حلمتها .. رضعت وجلاً أول الأمر ثم انتابتني بعض اللذاذة .. بعد قليل كان كفاي يعتصران نهدها النافر كقبة وشفتاي ترتشفان لعابي الممتزج بعسل نهديها “.
كانت تلك التجربة اكتشافا مدهشا منحته الخبرة التي إستعان بها فيما بعد في تفجير روح العبث المتجاور مع عواطفه المتفجرة بين اروقة كلية الفنون الجميلة .
شخصية أحمد العراقي تبدو وكأنها مازالت في حالة من فقدان القدرة على التركيز والاستقرار رغم مرور عشرة أعوام على العيش بعيدا عن وطنه الذي طالما الموت طارده فيه :-” أيّة طمأنينة ستمكث وكل بيان بهجوم يعني سربا لامتناه من النعوش واليافطات السوداء التي تكحل عيون الازقة ؟ ” ..
تعيش هذه الشخصية حالة من الفوضى الدائمة،بين أوراق وصورتعود للحبيبة ندى التي غادرت الى غربة آخرى،لتتبعثر الذكريات من حوله،فتحيط به،هنا وهناك :”صور ..صور .. بعثرتها لأهمي بعيني الناثة رحيقها،مرتشفاً جبهتها الوديعة وأنفها الغائص في الذهول وشفتيها المبتسمتين في شفتيّ برقة لاموطن لها إلاّ ندى ” .
يتّخذ المؤلف من صيغة المذكرات اليوميةوسيلة سردية في إدارات دفة احداثٍ بعيدة وقريبة إكتظت في ذاكرة متعبة وخائفة وحزينة عبَّر عنها المؤلف بصيغة ضمير المتكلم،يبدأها بتاريخ محدد 7/ 8 / 2001 ثم 8/ 8 / 2001 وهكذا تتوالى التواريخ اليومية متتابعة لتنتهي بالتالي بنهاية مفتوحة بهذه الجملة :”صنعاء 2001 ” .
عمل المؤلف بآلية السرد هذه على استحضار الماضي من الماضي نفسه،
يوماً بيوم،وأعاد تركيب ماجرى فيه من أحداث من خلال رؤية المخرج
السينمائي أحمد العراقي، وهي رؤية لاتخرج في شكلانيتهاعن إطارتيارالوعي في الرواية الحديثة ،أيضاً جاء بناء كل مشهد فيها وفق التركيبة السينوغرافية للمشهد السينمائي،كما لم يخرج في رؤيته هذه عن الاطار الواقعي، رغم الطاقة الشعرية التي عبّأ بها لغته وهو يشتغل عليها في إعادة تركيب الحدث من جديد :”بدت الكتل المبتلة بمطر الليلة الفائتة منتصبة على جانبي الطريق..يتكئ بعضها على بعض،هامسة بوحها الساخر لما اكتنزته ذاكراتها بما اختبأ خلف جدرانها المستسلمة لدفء الأنفاس اللاهثة،جدران تركن للصمت والسكون مشرعة مسامات التلصص الملتذة على جسدين إحتويا عريهما بين الجدران، هاربين من سياط الآخرين اللاسعة،يخبئان توقهما أول الأمر عن فضول مسامات الجدران .. يتبادلان نظرات يطفر إلى مآقيها الوله.. ينساب دخاناً لا مرئياً يلفح الوجه الآخر.. يمتزج الدخان .. تجذبه المآقي فيجذب إلى مركزه الوجهين الموشكين على الذوبان .. تبتلع المآقي دخان الوله ليغدو لعاباً سكرياً عاتي اللذة يكسو الشفاه المتلاصقة .. يمتزج .. تذوب الشفاه في اعتصار يرتج لعنفه قلبان يطفح دفئهما فيطرد ما علق بالجسدين من خِرَق .. تشرع الجدران مساماتها مرتشفة الالتصاق الأفعواني العابث للجسدين المهتاجين .. وتسرع عند بزوغ الفجر لبعثرة ذاكرة الليلة الفائتة في آذان الجدران الأخرى .. تقهقه جدران صنعاء ساخرة من انكسار قلبي فوق رصيف فندق الشلال باحثاً بعينين نهمتين عن بقايا خطواتنا المرتبكة..”
بعد أن يودع أحمد العراقي حبيته ندى التي عشقها بجنون كما عشق من قبل وفاء ونهال في كلية الفنون الجميلة :” أ أخبرتك يوما بأني لم أشعر بالطمأنينة حتى التقيتك؟ ” . . يعود أدراجه الى شوارع العاصمة صنعاء مجتراً ذكرياته التي اكتنزت انفاسهما اللاهثة خلف جدرانها. :” تستقبلني جدران منزلي ..أطرق رأسي خجلاً ..سألتني صورة الفراشة الحائمة حول الشمعة المتلألئة عن ندى .. إزداد رأسي إطراقا .. تمتمتُ .
ـ غادَرتْ ..
أسرعت الفراشة بالطيران صوب لهب الشمعة فضجت الصورة برائحة شيّها .. قفزت من عيني دمعتان لابدتان في زاويتيهما المحمرتين لفرط العواء .. درتُ حول الجدران مرتشفاً رائحة ندى الفائحة من مسامات الجدران وزوايا اللوحات المعلقة وبين أضلاع التمثالين البرونزيين الصغيرين.. كانت ندى ماثلة في زوايا المنزل.. بقايا ضحكة مكركرة في حجرة النوم لم تجذبها معها ساعة مغادرتها “.
ختاما نقول إن رواية يوميات غياب الندى تستدعي قراءتها أكثرة من مرة بعد أن توفرت فيها لغة سردٍ ثرية ومكثفة عمل فيها الهلالي على انجاز بنية فنية تحمل مفرداتها حساسية شعرية عالية أضافت نسقا متعالقاً مع تركيبة الاحداث والشخصيات .