26 نوفمبر، 2024 12:55 م
Search
Close this search box.

يوميات .. الباب الشرقي/9

يوميات .. الباب الشرقي/9

في شقة سلام، سمع عبد الحسن صوت أذان المغرب من جامعٍ في المنطقة، اختلط ذلك الصوت بأصوات الشباب المثقفين هنا، صاح أحدهم عليه ليغلق الشبّاك، فهذا الصوت القادم يزعجه. هزّ عبد الحسن رأسه وقام من مقامه واستأذن الحضور.

: انتي باقية لو أوصلچ ؟

: وين حبيبي ؟ السهرة بعدها مابدت.

: أرجع أرتاح واصلّي هواية أشرف لي.

سمع الشباب جملة عبد الحسن فتناولوه بتعليقاتهم ..

“معقولة اتصلي ؟” .. ” اشعندك اهنا ابيناتنة يمعود؟ احنة كفّار وحقّ هُبل” .. “والله انت بطران”

تحرك ليخرج وقهقهاتهم تجتاح مسامعه، لم تقبل سَموأل ترك الجلسة، فودّعته وأخذته بالأحضان. حين وصل إلى الباب وقد همّ بالخروج سمع أحدهم يخاطب سَموأل.

: انتي من كل عقلچ مصادقة هيچ واحد ؟ أخاف ناصبة عليه ولچ ؟ .. توقف عبد الحسن ليسمع الجواب.

أجابته سَموأل: والله عندي تجربة وأريد أشوف نتيجتها على هذا الكائن، هو مصدّگ روحه وآني دا أسايرة.

انتفض عبد الحسن حين سمع ذلك وعاد للجلسة، وقف على الباب وتأمل في وجوههم واحداً واحدا، ثم جمع قواه ونطق ..

: شوفوا، ترة آني مو مثقف مثلكم، بس كل هاي ثقافتكم وكتبكم ونقاشاتكم، إذا ما خلّتكم تحترمون انسانية البشر، فطزّ بيكم وبثقافتكم وكتبكم، زين ؟ البلد مو بس السياسيين والحرامية طيحوا حظّه، انتو مو أحسن منهم يا .. يا مثقفين !

أدار وجهه وتركهم في حيص بيص، هذا يقول “( طزّ ) عنوان جيد لمقال أو مشروع تنويري أو ..”، وآخر يقول “هذا حمة، وضاج من البيرة يمكن” ثم تركوا ما تفوّه به وعادوا إلى طرح أفكارهم المعرفية لحل مشاكل العراق.

في الطريق إلى البيت، دخل عبد الحسن دوامة أفكارٍ مما سمع ورأى، “هل هؤلاء هم شباب العراق المثقف؟” .. “هل هؤلاء هم القدوة التي ستحلّ مشاكل البلد ؟”، يلتفت إلى يمينه ويساره في الطريق، يرى المساكين والمحرومين يتحركون ببطء، هدّهم نهارٌ ثقيل وطويل. تتداخل الصور عنده، قهقهة المثقفين والسياسيين وحسرات هؤلاء المنتشرين على الأرصفة وبين الدكاكين.

..

: ها ! أشو رجعت بسرعة ؟ لازم السهرة ما عجبتك ويّة حبيبة قلبك ؟

: اسكتي لخاطر العباس، ترة أطلّع قهري كلّه بيچ ؟

: مقهور ؟ لعد هذا خوش خبر، اتعاركت ويّاها لو شنو ؟ بابا هاي ما تفيدك، شايفة روحها فد شي ..

الأخت الكبرى لا تتوقف عن الكلام وعبد الحسن سارحٌ ينظر في وجهها ويهزّ رجله اليمنى ورأسه، حتى وصل إلى ذروة انفعاله، فصرخ بها وقام ليخنقها، فولّت عنه هاربة إلى غرفة أمّها تستجير بها من بطشه. تكوّرت خلف أمّها الجالسة على سجّادتها وبيدها مسبحةً طويلة.

: يُوم الحگي، هذا اتخبل رسمي، بس لا هاي شربته شي ؟ أدري بيهن هَذّني أمّهات السحورة.

رفعت الأم مسبحتها وضربت بها رأس ابنتها من خلفها : گومي حضريله عَشة بدل هاللغوة .. ثم رفعت رأسها نحو ابنها .. تعال حبيبي اگعد يمّي وسولف لي يا بعد روحي، اسم الزهرة يحرسك ويحفظك.

انهار عبد الحسن حين سمع هذه الكلمات ووقع في حجر أمّه يبكي، وهي تمسح على رأسه وتقبّله، بدأت بقراءة أحرازهها على رأسه وتنفخ عليه أنفاسها، يشمّ في ثوبها الأسود رائحة الخبز ودخان التنور، نسى نفسه واستلقي جنبها، وأخته تنظر إليه باستغراب وحيرة، حتى لوّحت لها الأمّ بكفّها أن تذهب وتحضّر العشاء له.

ظل عبد الحسن ليلتها سارحاً، أغلق هاتفه حين رنّ من طرف سَموأل، مرّة ومرّتين. وفي اليوم التالي، أغلق باب مكتبه على نفسه وطلب من أحد العمال أن يخبر سَموأل التي حضرت للورشة بأنه قد سافر ولن يعود إلّا بعد مدّة.

سارحاً هادئاً أمضى عبد الحسن أيامه وأسابيعه التي تلت تجربته تلك، لا يشاهد التلفاز ولا يفتح الفيس أو اللابتوب، لكنه لم يلغِ توجيهاته بعمل غرفة النوم التي أوصى عمّاله بعملها.

ذات صباحٍ جميل وهو جالس على مائدة الإفطار مع أمّه ..

: يُوم ؟

: ها يَبعد امّك.

: هيَّ تماضر بعدها ؟

: صلوات على محمد وآلِ محمد، يُمّة فدوة تروحلك تماضر، أكيد تنتظرك، ولعلمك ترة تماضر مو مثل گبل.

: شلون يعني ؟

: يا ! من يوم سمعت بيك اتريد وحدة مثقفة وهيَّ يومية تقرالها كتاب كتابين من ذنّي الكتب الزينة، أي، واتّابع شكو برامج من هذني اللي آني ما أعرف شيحچون بيها.

جمد فم عبد الحسن واللقمة فيه، سقط فكّه السفلي ولم يرمش للحظات.

: ها يُمّة عبد الحسن ؟ أكيد هذا الخبر فرّحك ؟

عاد إلى وعيه عبد الحسن وتناول هاتفه بسرعة وبحث عن رقم تماضر واتصل بها، وحين فَتحت الخط، سلّم عليها عبد الحسن فأجابته ..

: أهلاً بك، أهلاً بابن خالتي الأكثر من رائع، ياله من صباحٍ جميل حين أسمع صوتك السرمدي !

شُلَّ عبد الحسن ولم ينطق بحرفٍ وتماضر تخاطبه ..

: ألو، ألو، أين أنت أيها الأمل المنشود ؟

..

انتهى.

نلتقيكم في مشاهد وشخصيات أخرى .. و .. تصبحون على وطن

 [email protected]

أحدث المقالات