***
في مكانه تسمّر، لا يستطيع التصريح بما تحته، عبد الحسن، يعيش تجلّيات اللّابوح في أجوبته لمن يسأله : ما بكَ يا صديقي ؟
الأصدقاء الرائعون يريدون مغادرة المكان والذهاب إلى الحديقة، وقد همّوا بالوقوف جميعاً، سَموأل تسأله اللحاق بهم، وهو يتحجّج بالصمت
: هيّا يا صديقي، لنذهب إلى حوار الحضارات وأنسنة القيم، إنها فرصة رائعة لقضاء وقتٍ ممتع ومفيد
أشار لها بأصابعه لتنحني أمامه، همس قرب أذنها : أنا منشغل بمعالجة فتقٍ حضاري تحت أنسنة الذات المشبّعة بالجّل، فهلّا تركتيني هُنيهةً علّني أعالج ذلك
هزّت رأسها مندهشة : ألله عليك .. ثم التفت إلى الأصدقاء .. هل تعلمون أن صديقي سوني منشغل بمعاجلة فتقٍ حضاري ؟ يا له من رائع
تفاعل الجمع معه وأبدوا تقديرهم لحالته
: هل نشاركك هذه المعالجة ؟ نحن جاهزون لأيّ دعمٍ فكري صديقنا
: يا أعزائي، أشكر مروركم العطر، هذه المعالجة لا تحتاج إلى دعمٍ فكري أو مساهمة تعبيرية، إنها بحاجة إلى سترٍ إلهي، أو أُبرة وخيط
: رائع، كم أنت رائع باختيار مصطلحاتك ورمزياتك، التحق بنا حين تنهي المعالجة
وضعت سَموأل كفّها على كتفه واقتربت منه : أنتظرك، لا تتأخر
أنفاسها تخترق مسامات وجهه، عطر شعرها يعطّر أمله الذي بدأ ينمو صباح هذا اليوم، أراد أن ينهض من مكانه ليودّعها، لكنه تدارك ذلك وهبط على مقعده فور قيامه
امتلأت المقاعد التي أمامه على الفور بمجموعة شَيبة، من لابسي السدارة والبرنيطة، سلّموا عليه وردّ سلامهم، استغربوا قلّة ذوقه بعدم قيامه احتراماً لهم، وكلّهم ازدراء
أخرج عبد الحسن هاتفه واتصل بسجاد، لكنه لا يجيب، فلعلّه للآن نائمٌ في هذه الجمعة المباركة، أعاد الاتصال وانتظر بتوتر حتى أجاب سجاد بصوتٍ ممزوجٍ بآخر تفاصيل حلمه .. ألووو ..
: لك أبو الهَلس اسوّيت بيّه ؟
: منووو ؟ نوااال ؟
: لك يا نوال ؟ آني عبد الحسن، صحصح ويّاي، آني بمشكله، هسّه اتروح البيتنه وتجيبلي بطّرون لو دشداشه لو أي شي، هذا البوري اللّي لبسته انفتگ
: انته وین ؟
: اشتعلو أهلك، لك بالمتنبي گاعد بالگهوه، گوووم
: زين زين، نص ساعه ويمّك آني
أراد عبد الحسن أن يُبرر عدم قيامه للمنزعجين منه : عمّو تره آني عندي مشكله برجلي لهذا ما گمت، واعتذر
: لا أبني لا، إذا هيچ المسأله فالله يشافيك، بس لو رايح لدكتور هادي السبّاك چان سوّالك چاره
عقّب عليه صاحبه : حجّي يا هادي السبّاك يمعود ! هذاك اللّي عالج عبد الكريم قاسم، انته وين تحچي ؟
: إيييه، وأبوه چان طبيب الوصي، لو عظامك مكسّره يلحمها مثل الأول
لا يملك عبد الحسن سوى القبول بما يُصرَّح أمامه، وبدأ بتدليك ركبتيه ليثب لهم ما ادّعاه، وفي الأثناء سمعَ صوتاً أرعبه من الخلف .. لُبُع، أريد لُبُع ! ..
أدار رأسه بحذرٍ إلى وراءه فرصدها هناك، ورصدته هنا، أجحظت عينيها وشقّت الصفوف نحوه .. لُبُع، جيب لُبُع ..
يفكر سريعاً، بعدما مال صاحب السدارة متفحصاً مفصل ركبته بكفّه، والغضب الساطع يقترب نحوه بسرعة، إنه أمام خيارين لا ثالث لهما، أمّا أن يتقبل الهجوم القادم من الخلف، أو يهرب فينكشف أمر الفتق الحضاري الذي خلّفه الربيع العربي تحته، وبين ذي وذا، قبض على الكرسي وقام به ونطنط هارباً من المشهد، وحين اندهش الرجل من قفزاته، نادى به عبد الحسن : بركاتك مولانا، إنها المعجزة، المعجزة !
أخرج ورقة الألفَ دينار بالكاد من جيبه ورماها خلفه فانشغلت بها، ولم يزل يمشي كسلحفاةٍ محروقة الأقدام بين الجالسين، حتى نادى به صاحب المقهى : يمعود استاذنا، شنو القصه ؟ اثبتلك بمكان
استقر حاله أمام محلٍ مغلقٍ خلف جماعة مكوّرين على طاولةٍ يدققون بانفعالٍ في صورٍ فوتوغرافية، دفعه الفضول للقيام من مكانه والنظر إلى ما ينظرون، وحين انحنى نحوهم، ازداد الفتق الحضاري وأخرج صوتاً لا بأس به، فرفع أحدهم رأسه نحوه مبتسماً : عادي صديقي !
أغاضته العبارة وأراد أن يبين له الفرق بين صوت الصهيل الفطري وصوت الفتق الحضاري، لكن المقابل حشر قلماً ثالثاً في كفشة شعره وقال لصديقه : هذا ثالث صوتٍ مميزٌ أسمعه هذا النهار الجميل
نظر عبد الحسن بغضبٍ إلى القلم الذي ثبُّت على شرف صوت فتقه، وحاول أن يسحبه من شَعره، تفادياً لأيّ تدوين سردي في صحائف المثقفين
وصل سجاد، يبحث عنه وسط الزحمة، تلقى اللكمات والكلمات بكل رحابة صدر، وبدّل عبد الحسن بنطاله في ركن المقهى حيث وقف سجاد ستراً له، وتبين أنه البنّي المخطط
: شنو ؟ أمورك ماشيه ؟
: بالليل تجيني، عدنه هوايه شغل لازم انسويه .. ودّعه، بعدما أعطاه قلماً ووأصاه أن يرميه في أقرب كنيف يمر به وذهب إلى الحديقة
حلقاتٌ وتجمعات، بين شاعرٍ يقرأ شعره، وآخر يغنّي وسط التصفيق، وانفعالات هناك، كانت سَموأل محشورة بينهم، تقدمَ نحوها، والتفتت إليه بالأثناء، فاستغربت تغير لون البنطال إلى الأزرق وهزّت رأسها مستفسرة
: عزيزتي سَموأل، لتعرفي أن كل معالجات الفتق الحضاري تتبعها تغيرات في النمطية الظاهرية مع استصحاب الحالة السماوية الزرقاء في حدود الأفق الممكن لسحب الأقلام من كفشة الرجال، والما يزور السلمان عمره خساره
: واو، كم أنتَ رائع
قال في نفسه : والله كرهت روحي من وره هالواوات والرائعات، مابيها كل طعم
وقف معها حيث وقفت، لم يفهم كلمةً واحدةً من الحوار الدائر بين سعيد جُلْجُثّة وآخر يلبس نظارات دائرية ويتقمص شخصية هاري پوتر، عليه آثار عدوان وحشي غادر، كأن دبّاً جبلياً هاجمه، وحين سأل عنه أجابته : هذا الرائع عبد الكاظم جُمانة، صاحب نظرية ( كلشي ابّلاش .. حلو )
: جُمانة !
: نعم، انتسب إلى عشقه، وحمل اسم حبيبته، انتمى لها، ترك أهله وعشيرته من أجلها
أدار رأسه عنها وبصوتٍ خفيٍّ خاطب نفسه وملامح عبد الكاظم في باله : بس لا تاليتي عبد الحسن سَموأل ! الرضا يخلصني من هودان وعشيرتي ؟ غير يصير كتلي حشد شعبي، وأصير صاحب نظرية ( من أجل عالمٍ خالٍ من .. الكركات ) !
..
يتبع
خاص بكتابات