الكتاب الذي نحن بصدده يتحدث في موضوع في غاية الأهمية ، تناوله المؤلف جمال البدري بالتحليل والتقويم تناول الخبير المتمكن الواثق من خطواته… فكان كتابه أشبه بالصدمة المبرهنة بأدلة وحجج نقدية علمية موضوعية مستندة إلى مراجع ومصادر متنوعة أخرجنا بها عن حدود المتوارث المترسب في عقلنا الجمعي المتعارف عليه بخصوص “الليالي العربية” ، حيث لم يكشف حقائق غير تقليدية وغير سطحية ميزته عن جهود سابقيه ممن اهتموا بأمر “الليالي” فحسب وإنما نسف كل قناعاتنا التي كوناها عن الليالي على مدى قرون عدة . وقد اعتمد المؤلف ، وهذا المهم ، في عملية النسف هذه منهج التحليل الداخلي لليالي والنقد المباشر مع المقارنة للناتج النهائي إزاء المقتربات الفكرية لما جاء في التراث الشرقي والميل إلى اللغة الرياضية المقننة بعيداً عن لغة “الليالي” ذات الإطناب والتكرار والتورية.
والمؤلف اعتمد هذا المنهج البحثي لكي تتحقق لدراسته صفة الواقعية الفكرية ، فإن هناك – كما يقول – ربطا حيوياً بين أدوات المنهج ومفردات الليالي الأساسية من شخوص وأماكن وموضوعات ودلالات مختلفة ، حتى لاتقع في أسطورية ألف ليلة وليلة ، فالمساحة بين الحقيقة والأسطورة في “الليالي” وإن كانت غير منظورة بسهولة لاتزيد عن “شعرة معاوية”.
والليالي العربية برنامج أدبي – فكري – سياسي- تاريخي – اجتماعي … له أهمية قصوى بين نتاجات الآداب العالمية في الشرق والغرب قديماً وحديثاً ، لقي ويلقى المزيد من الاهتمام المتجدد.
ولأن مؤلف “الليالي” ليس فرداً واحداً مشخصاً بل هو مؤسسة لها صفة الديمومة والاستمرارية بغض النظر عن الأشكال والتطورات التاريخية والسياسية والثقافية المحيطة بها.
ولأن مؤلف “الليالي” – كذلك – ليس عربياً ولامسلماً بل اتخذ العروبة والإسلام والآداب الشرقية وسيلة لغايات أبعد ، وإن كان مقيماً آنذاك في ديار العروبة والإسلام وتحت خلافة بني العباس . فالليالي استندت إلى جميع نتاجات الفكر والأدب والدين في المشرق العربي الإسلامي ولكنها تعاملت مع ذلك النتاج وفق رؤيتها الخاصة حذفاً وإضافة وتعديلاً وتشويشاً وإبرازاً لحقائق وطمساً لأخرى والانتساب لواقع ورفض لآخر عن طريق الرمز والأسطورة والخيال ، فترتبت عليها بعد قرون من الزمن نتائج تقترب بنا من الموروث اليهودي أكثر ما تقترب بنا من غيره.
وعلى هذا الأساس جاءت الغاية العلمية المعرفية من هذه الدراسة وفق رؤية المؤلف: هي تحديد حجم الإسرائيليات من بين مادة ألف ليلة وليلة . أي كشف الهدفية السرية من تأليف الليالي منذ وضعها وحتى اليوم وبأي قلم كتبت ؟!
إن ألف ليلة وليلة برنامج فكري شامل “مجفر” يستند إلى أسس ثابتة متوارثة يسعى إلى الحفاظ على الماضي الموروث وتعميمها من خلال:
ـ التطعيم المفبرك.
ـ تكييف الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي في المشرق العربي/الإسلامي وفق هذا الماضي المفبرك وفلسفته الحياتية قدر الإمكان.
ـ رسم طريق مستقرة لاستمرارية هذا التكييف على الرغم من المتغيرات والتطورات العاصفة بالمنطقة ولفترة طويلة.
ـ إظهار الصورة بما يلائم المرحلة بعد عرضها بجاذبية وتشويق وظرافة محببة للنفس قريبة من عامة وخاصة الناس.
ـ استعمال اللغة الرمزية في إيصال البرنامج الفكري لإقفال إمكانية “فك جفرة” هذا البرنامج/الليالي لغير المطلعين على حقيقة تأليفه ووضعه والغاية من وراء ذلك . فكانت الليالي وسيلة العرض الناجحة وذائعة الصيت في كل المجالس والأمكنة آنذاك ولترويج وجهات نظر مقصودة سلفاً.
ومن هنا ، وتأسيساً على ما تقدم ، جاءت مجهولية اسم المؤلف ، وكذلك من هنا اختلطت الحقيقة مع الأسطورة ، فكانت الليالي مثار اهتمام أهل الشرق والغرب . فأهمية الليالي تنطلق من قانون الإشاعة المعاصر “الأهمية في الغموض تساوي إشاعة ناجحة ومثيرة في الحرب النفسية”.
إن معظم الأفكار والمذاهب الأدبية والاجتماعية والقانونية والمعرفية القديمة في الشرق تفرعت عن التراث البابلي على وجه الخصوص حيث يشير إلى أن أساسيات الفكر التوراتي وتطبيقاته التلمودية استندت إلى هذا التراث الذي وسم منطقة الشرق العربي القديم .. نظراً للسطوة السياسية والفكرية والتجارية والثقافية التي كانت عليها بابل آنذاك ، ولعل يهود بابل أدركوا قيمة مركز القوة هذا فعملوا على:-
ـ التكيف مع الأوضاع الجديدة لهم بعد الأسر ، التفاعل مع مفردات الحياة البابلية اجتماعياً وسياسياً.
ـ إيجاد دور متميز لهم وسط الحياة البابلية هذه خصوصاً في مجال التجارة والمال والخدمة في البلاط الملكي.
وكانت تجربة اليهود الفكرية الأولى بعد النبي موسى تجسدت في الاقتباس الديني والاجتماعي من الحضارة المصرية القديمة وتهويد هذا الاقتباس . ووراثة التراث الكنعاني وتهويد هذا الإرث الحضاري المحلي لصالحهم.
وأما تجربتهم بعد سقوط أورشليم لمرتين على أيدي الآشوريين والبابليين فقد تجسمت في تعريق موروثهم الديني/الاجتماعي والفكري بابلياً والانفتاح على التراث الشرقي السائد آنذاك في بلاد فارس والهند والصين.
ثم يتساءل المؤلف مستفسراً ، ماذا أخذ اليهود وممن أخذوا ذلك ؟ مما انعكس لاحقاً في ثنايا حكايات ألف ليلة وليلة ؟ فكانت إجابته على هذين التساؤلين مقارنة لأبرز سمات الفكر التوارتي والتلمودي مع بعض النتاج الشرقي القديم (الهندوكية ، البوذية ، الزرادشتية) الذي وجد اليهود فيها دماً جديداً زاد من قوة وحيوية الفكر التوراتي والتلمودي ، وبذلك أصبح الثالوث الشرقي المشترك الشيء الذي أعطى للفكر التلمودي/التوراتي سمته وطابعه الكمي بعد أن اقتبس من بابل تراثه النوعي.
ولم يقتصر الأمر على هذه الروافد بل شكل النتاج العربي الإسلامي في العصر العباسي الأول وما تلاه مباشرة أحد روافد الفكر اليهودي أيضاً سواء ذلك الذي ظهر في بعض مؤلفات اليهود المستعربين أو في تصورات الفرق الدينية المستجدة . وكذلك اعتمد كمادة أساس في بنية حكايات ألف ليلة وليلة ، لأنه لم تكن ثمة مسافة نفسية وسياسية شاسعة بين أهل الذمة – ومنهم اليهود – والحياة العربية الإسلامية تحت الخلافة العباسية عموماً . وكذلك إن استثمار بعض القصص والحكايات العربية الإسلامية أو ذات الشخوص والموضوعات الإسلامية بعد إعادة صياغتها قد خدم جهة تأليف ألف ليلة وليلة ، مما جعل هذه الحكايات مقبولة ومتداولة بين الجمهور ، فهي بمثابة وسائل نقل طريفة ولطيفة لمقاصد فكرية موجهة.
ويلفت المؤلف انتباهنا إلى حقيقة تاريخية هي أن الحدود الجغرافية وغيرها من الحدود بين أقطار المشرق العربي/الإسلامي إبان عصر ألف ليلة وليلة لم تكن موجودة ، ومن ثم فإن النتاج الثقافي والفكري تحت سلطان الخلافة العباسية كان مفتوحاً للجميع ، لكنه من جانب آخر كان يراعي ذوق بغداد مركز السلطان والخاصة من المجتمع.
فعلى الرغم من خصوصية وانفراد اليهود بسمات عقائدية لاترتبط بغيرهم فإنهم في ظل الخلافة العباسية كانوا متأثرين بسيادة العقائد الإسلامية . وعلى هذا الأساس اعتمد أسلوب كتابة حكايات ألف ليلة وليلة على الاستفادة من جميع النتاج الثقافي والفكري والأدبي الشرقي القديم منه والعربي الإسلامي الوسيط دونما أية إشارة مباشرة إلى مصدر بعينه ثم الاعتماد عليه مع إدخال التعديل والتحريف والإضافة بما هو مناسب لأهداف المؤلف الآنية منها – وقتئذ – والبعيدة . لقد حدد المؤلف أمر جهة الكتابة والتأليف وملابسات وظروف وأهداف ألف ليلة وليلة بشكل مباشر بقوله: إن طبيعة تأليف “الليالي” شبيهة بطبيعة تأليف الكتب الدينية عند اليهود . فالتوراة البابلية والتلمود البابلي وهما أهم وأخطر كتابين يهوديين لم يكتبا مرة واحدة ولا في عهد واحد ، وإنما أخذت التوراة وأخذ التلمود عدة مراحل وعهود كتابية استغرقت عدة قرون ، وقام بكتابة التلمود والتوراة أكثر من قلم وأكثر من حاخام وكاتب ، ولو أخذنا والكلام مازال للمؤلف ، ألف ليلة وليلة فسنرى شبهاً قوياً لها بطبيعة تدوين الكتب اليهودية ، فقد برهن المؤلف على ذلك بقيامه بإحصاء المواقع التي ورد فيها اسم – يهود- وماهو مشتق أو مرتبط بها في حكايات ألف ليلة وليلة فوجدها تبلغ 52 موضعاً أي بعدد أسابيع السنة الواحدة أو بعدد أيام السبت في العام الواحد.
وقد توصل الكاتب إلى نتائج تبرهن على صحة ماذكره تمثلت في:-
ـ إن الملاحظة الجديرة بالذكر والانتباه ، إن جهة تأليف الليالي ركزت على إيراد صفة الملوكية على معظم الحكام الذين ورد ذكرهم في الحكايات في الوقت الذي كتبت فيه الليالي – بداية ونهاية – تحت ظلال خلافة بني العباس والحاكم يسمى “خليفة أمير المؤمنين” وليس ملكاً . والجواب في تقدير المؤلف، أن ذلك له ارتباط بالفكر السياسي لليهودية ، فهذا الفكر التلمودي لايرى حاكم إسرائيل أو أورشليم أو الماشيح “المنقذ” إلا ملكاً من نسل النبي داود ، لذا جاء تعميم لقب الملك في معظم حكايات الليالي قصداً مقصوداً لتحقيق هدفين:
ـ نفي الخلافة العباسية لأنها لاتمثل المركز المقدس وهم اليهود.
ـ تكرار الإشارة إلى البديل لترسيخه في عقول الخاصة والعامة.
جانب آخر مهم يورده المؤلف بحذاقة تحليلية عالية بعد التحليل والمقارنة والنقد جازماً أنه يخطئ من يظن أن محور المرأة كما جاء في حكايات الليالي رتب بطريقة المصادفة غير المقصودة أو التي لاترتبط بهدف أو بالمغزى اليهودي من ورائه كما وضعته جهة التأليف (سنهدرين يهود بغداد – المجمع الديني الذي نشأ في مدينة أورشليم عام 141 ق.م) فأخذ المؤلف شهرزاد الشخصية الأساس ففيها المبتدأ وفيها المنتهى لكل حكاية.
فشهرزاد هي الاسم الرمزي للبطلة اليهودية “استير” وشهريار هو الاسم الظاهر للرب أو الملك احشويرش الأول زوج “استير” ، وقد خلدت التوراة اسم وفعل استير لإنقاذ اليهود ، وخلدت ألف ليلة وليلة من خلال جهة التأليف شهرزاد/استير في جميع حكايات الليالي ، لأن مرحلة كتابة ألف ليلة وليلة كانت بداية وقت الاضطهاد ضد اليهود ، فلابد من التعبير عن الإحساس بالاضطهاد من خلال خلق المنقذ العادل للشعور بالخوف والعقاب المجهول.
إن شهرزاد فيها شيء كبير من (الماشيح/المنقذ المنتظر) الذي يخلص شعبه من الشتات والفناء ضمن الرؤى (الميسائية) التي تشكل إحدى سمات الفكر اليهودي عبر العصور.
هناك أحداث جسام سجلتها “الليالي” لم تعط في تقييم هذا العمل الكبير ودلالاته الأبعد مما دفع بالمؤلف جمال البدري إلى الإشارة إلى أن مؤلف الليالي قد نجح في تحقيق النتائج الأولية لمهمته غير المنظورة عبر العصور فكان بالتالي اختفاء اسمه الذي فاق من حيث التأثير على إعلانه صراحة ، وهذه ميزة لم نجدها لغير اليهود في الكتابة والتأليف عبر عمليات غسل الدماغ وتوجيه العقول والتأثير على توجهات الرأي العام لتحقيق متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية محدودة سلفاً وفق حسابات خيالية استيعابية لمجريات الأمور.
وعلى كل حال ، فإن تناول جميع الأشكال والأمزجة والطباع السياسية والاجتماعية والثقافية في حكايات ألف ليلة وليلة ودون تميز يؤيد أن جهة التأليف لم تكن تشعر بالانتماء إلى شكل محدود لتنحاز إليه ، ولم تكن تلك الجهة التي تشارك مع الجميع دون انتماء سوى اليهود . إن التوراة هي العهد القديم الأول، والإنجيل هو العهد الجديد الثاني ، أما ألف ليلة وليلة فقد أطلق عليها المؤلف البدري تسمية العهد الثالث لأنها – كما أوصلته استقصاءاته – بحق عهد ثالث متجدد يرقى إلى ماقبله مكانة وتأثيراً وارتباطاً باليهود وباليهودية ، وتأكيد المؤلف هذا مستند إلى جملة ملاحظات توصل إليها تجسدت في الآتي:-
ـ من حيث الشكل فإن التقسيمات التوراتية في الليالي شبيهة بتقسيمات الكتاب المقدس إلى إسفار وإصحاحات.
ـ إن تقبل ألف ليلة وليلة في المجتمعات التي تأثرت بالروح التوراتية كان أكبر من غيرها من المجتمعات الأقل تأثراً ، فبين التوراة والتلمود وألف ليلة وليلة حبل سري – من التعشق القيمي والغرضي – ولهذا نجد أن شهرة الليالي تعاظمت عالمياً بسبب هذه الروح وخصوصاً بعد انتقالها إلى أوربا.
إن ثمة هدفية سياسية دينية نفسية تقف وراء التأليف باتجاهين :-
الأول – التخفيف من العداء ضد اليهود من قبل الأوساط غير اليهودية.
والثاني– كسب المعتدلين من مختلف الفئات والطبقات والمستويات لتقبل المقولات اليهودية وبالتالي تقبل الفكر والسلوك اليهودي.
أخيراً هل استطاع البدري ، حقيقةً ، أن يصدمنا بأدلته وحججه النقدية العلمية الموضوعية ، وأن ينسف كل قناعاتنا التي كوناها عن الليالي كل هذا الوقت ؟!
الكتاب:-
جمال البدري – اليهود وألف ليلة وليلة ، دراسة تحليلية نقدية مقارنة ، ط1، دار الراية، بغداد ، 1998.